خربشات
(1)
عندما توجهنا نحو الطائرة المروحية التي تربض في مكان بعيد عن الطائرات الحديثة الروسية والأمريكية طلب كابتن المروحية الذي تلمع النجوم على كتفيه كالنجوم في ليلة صيفية مظلمة، وهو شاب دون الثلاثين من العمر دفعت به القوات المسلحة نحو الفضاء كطيار مقاتل، طلب من الصعود.. في تلك اللحظة طافت بمخيلتي صور لقادة طائرات مقاتلة وطائرات نقل كانت تجوب بنا فضاء الجنوب قبل الانفصال، وجوه لم يمحوها الزمان من مخيلتي، منهم شهداء سقطوا من علياء السماء إلى الأرض لتدفن الأجساد وتصعد الأرواح لرب السماء.. تذكرت “أسامة محمد الحسن خشم الموس” واحتراق طائرته في قلب جوبا.. تذكرت “شريف زيدان” و”عامر الزين” و”مصطفى بدوي”.. وتذكرت “محيي الدين أبكر” الطيار الذي أخلانا من بور بشجاعة وأنقذنا من حصار تطاول و”محيي الدين” واحد من ضحايا نزاع دارفور.. وتذكرت موت “محجوب عبد الحفيظ” بمطار الخرطوم في فاجعة من فواجع الطيران.
كنا نعتزم في ذلك اليوم التوجه إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس، إنها شطاية، وما أدراك ما شطاية، المنطقة التي قادت بشاعة أحداثها بلادنا إلى سجن لاهاي وحبست البلاد بين جدران العقوبات الظالمة.
(2)
أقلعت الطائرة المروحية باتجاه الجنوب الشرقي من المدينة حتى اقتربت من معسكر “كلمة” إحدى علامات عار قضية دارفور، حيث يعيش أحفاد السلطان “علي دينار” كاسي الكعبة المشرفة في “كونتينات” بؤس وشقاء وشظف عيش ووأد أحلام ثم انحرفت الطائرة باتجاه الغرب تشق سماء المدينة الغارقة في ماء وادي باري أو وادي نيالا الذي قال عنه الأديب “بركة ساكن” إنه المكان المناسب لممارسة الحب، وحينما أسس الشيخ “إبراهيم السنوسي” مع ولاة دارفور وكردفان (كيان الغرب) في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، قال موجهاً حديثه لمن لم يعجبه قيام الكيان (الزعلان يشرب من ماء وادي نيالا) ولم يشرب المياه العكرة القادمة من جبل مرة إلا قادة الكيان أنفسهم حينما تصدع النظام.
حينذاك بدا حي خرطوم بالليل وتكساس من أعلى مثل وردة بيضاء في حديقة مزهرة والطائرة تتجه نحو الجنوب الغربي.. الأرض خضراء وقطعان الماشية تهرول خوفاً من صوت الطائرة.. والأودية تفيض بالمياه الخريفية والسحاب الراحل يكاد يلامس أغصان الأشجار العالية و”داليا إلياس” الشاعرة تنشد (يا شادياً ملك الزمان نضاره ونما بقامته السنا ما كنت أحسب حين غادرت ستذكريني الليل والصمت الطويل وخصلات غصنك مورقة).. وأخذت الطائرة تبحث لها عن أرض تهبط عليها بعد أن غطى العشب الأخضر الأرض المنبسطة.
(3)
هبطت الطائرة في مدينة كانت اسمها شطاية لكنها قتلت وأي نفوس قتلت وبأي ذنب حرقت الأحياء وحرموا من حق الميت على الحي هم فقط (1371) من الضحايا قتلتهم المليشيات المسلحة.. قالها “أبكر محمد أبكر” رئيس لجنة السلم الاجتماعي التي آلت على نفسها تجفيف الدموع والسمو فوق الجراح، وتبدت حسرة أبكر على حصاد الرصاص، دماء أهل شطاية، وهو نفسه مفجوع لمقتل ابنه “محمد” في تلك الأحداث التي عصفت بشطاية في العام 2004، حينما انقسم مجتمع دارفور ما بين بندقية الحكومة وبندقية التمرد وكل هذا العدد الكبير من الضحايا لم ينصب لهم نصب تذكاري، كأنهم سقط متاع والحكومة اليوم تقف على مسافة واحدة من مكونات دارفور لذلك تبنت غسل الدم بالعفو وتضميد الجراح بفضيلة التسامح.. وإذا كانت شطاية وأحداثها قد حملت قضية دارفور من الفاشر إلى لاهاي حيث كتب عمد ومشايخ تحت ظروف الموت تلك وعجز الدولة عن حماية مواطنيها إلى مظان العدالة الدولية يشكون نظامهم مثل كتابة تجار أغاريق لملكة بريطانيا ومعهم بعض السودانيين مطالبين بريطانيا بإعادة استعمار السودان كيداً في المهدية، فإن التاريخ أعاد أحداثاً تشبه أمسه حينما طالب المواطنون بمحاكمة مليشيات ارتكبت فظائع وجرائم في حق البلد قبل الأفراد.. ومن شطاية كانت قضية المحكمة الجنائية الدولية والمطالبة بتسليم الرئيس.
ورغم أن “أبكر” رئيس الآلية ينفي كتابة أي من مواطني شطاية لعرضحال للاهاي إلا أنه يقول نحن الآن ننتظر الرئيس ليزور شطاية ونسلمه وثيقة بالعفو عن تقصير القيادة في حق ضحايا المنطقة بعد المصالحة التي شهدها مؤتمر شطاية، وفي ذلك المؤتمر الذي دعت إليه مكونات المنطقة وهي ثماني قبائل: الفور وأغلبهم ضحايا، الزغاوة، البني هلبة، الرزيقات، خزام، الداجو، السلامات والبرنو، جلس هؤلاء لمدة أسبوعين، قالت: أسر الضحايا فلان قتل فلان؟؟ يقف المتهم بالقتل بل هو القاتل ويقول أنا قتلت “هارون أبكر” و”عائشة أبكر” وأطلب العفو من العم “أبكر” الذي يجلس بالطرف الآخر.. يقف “أبكر” وفي وجهه يقين وإيمان ويتحلى بقيمة العفو عند المقدرة ويقول: عفوت لوجه الله عنك قاتل ابني “هارون” وابنتي “عائشة”.. يتعانق الرجلان وتنهمر الدموع ويشعر الناس بقيمة الوالي السياسي “آدم الفكي” الذي أنضجته تجربة طويلة في دهاليز التنظيم والحزب، وتجربة قصيرة في منصب الوالي لكنها ناجحة في جنوب دارفور.
(4)
تعافي شطاية يعد تعافياً لإقليم دارفور، وبعد قرار نزع السلاح فإن الرئيس “البشير” في زيارته القادمة سيقول للشرتاي “عمر قندولي” ممثل المنطقة في البرلمان وأحد صناع المصالحة والتعافي الاجتماعي: (عليك الريدة طل علينا
يا الختينا فيك آمال تجينا فرح
ترفرف فوقنا نستناك بالموال والشوق بيني وبينك إنت
زي ما تقول سحاب هطال).. وحتى نلتقي.