تقارير

كسلا.. "كجر" و"كجراي" في (أكلا) جوهرة فقراء أروما

أوراق من دفاتر شرق السودان (1)
“جماع” و(3) تحديات واختبارات أمام حكومته الجديدة
كسلا – يوسف عبد المنان

لو لم يرفد الشرق بعيونه الثلاث القضارف، كسلا وبورتسودان الوطن الكبير إلا بشعراء الشرق “محمد عثمان كجراي” صاحب (مافي داعي) و”إسحق الحلنقي” صاحب (يا الفرهدتي فرح جواي أنا جملتك بي ألواني).. و”أبو آمنة حامد” (أنا بحبه أكتر يا ما هواي بيكبر).. لكفي الشرق ثقافياً وأدبياً هذا الشرف.. والنجوم الثلاثة أولهم المعلم “كجراي” من مواليد القضارف وثانيهم “إسحق” من توتيل.. وثالثهم “أبو آمنة” من سنكات.. هذا الثلاثي الذي نحت عميقاً بأظافر بيضاء في تربة الثقافة الوطنية كان امتداداً لنخبة من السياسيين الذين أثروا دروب النشاط الوطني “الرشيد الطاهر بكر” من ديم بكر.. و”عثمان السمحوني” و”أبو علي أكلاب”.. و”محمد عبد الجواد” و”محمد عثمان كرار” و”طه بعشر” و”كجر علي موسى” و”موسى حسين ضرار” و”أبو علي مجذوب” و”أبو فاطمة” وكل الرموز التي شاركت في الحكم الوطني ومهرت بدمائها في غابات الجنوب ودفعت ثمن وحدة لم تتحقق لأن قادة بلادنا خانوا تلك الدماء يوم أن رفضوا دفع جزء من استحقاقات أن يبقى الوطن من حلفا لنمولي.. ليصير الآن من سنكات إلى الجنينة، من طروجي إلى حلفا.
الشرق الباذخ بعطائه رغم جدب الأرض وملوحة ماء البحر، وموجات الهجرة من القرن الأفريقي، ودخول المنطقة في دائرة الصراع الدولي وهجرة الفقراء المعوذين لأوروبا بحثاً عن الحياة التي يطلق عليها (تجارة البشر) وتسمى أيضاً (الهجرة غير الشرعية)، وتسلل السلاح إلى سيناء ثم إسرائيل ما جعل الأخيرة تنفذ عمليات في قلب السودان دون أن تجد رادعاً وإدانة حتى من الأقربين.. تلك هي صورة الإقليم الشرقي بجغرافيته التي تمتد من مناخ أقرب للسافنا الغنية جنوب القضارف إلى صحراوي جاف شمال كسلا.. ومناخ على الساحل قريب من نفس الخليج ومدن الملح التي عبرها يتنفس السودان ويتصل مع العالم بتعاظم دورها الإقليم خاصة في القرن الأفريقي.. مع هذا وذاك كانت الرحلة في أعماق مدينة كسلا أو ولاية الشرق الوسطى التي تتصل بدولتين إريتريا وإثيوبيا، وتمد يدها اليمنى للخرطوم العاصمة واليسرى إلى أسمرا العش الذي يحتضن صغاره برفق ويفتح قلبه للقريب بفرح.. ثلاثة أيام برفقة ثلة من الصحافيين جمعهم رئيس اتحاد الصحافيين من كل لون وطيف وطعم إلى قلب الشرق النابض بالحياة والإلفة.
{ مصاعب الولاة
لم ينفك المركز يسير بخطى متراجعة عن النظام الفيدرالي بكامل استحقاقاته المتعارف عليها من بسط السلطة للمواطنين لاختيار من يحكمهم، بتعيين الولاة من خارج حدود ولاياتهم، ثم الإمساك بعنق الوالي وتحجيمه والانتقاص من سلطته بفرض وزراء ولائيين من المركز يعينهم (رقيب) الولاة.. وغالباً يأتي وزير المالية ووزير التخطيط العمراني من الخرطوم مباشرة، وهاتان الوزارتان هما مظان قليل من المال.. لذلك لا يترك للولاة اختيار وزيريها.. و(50%) من الوزراء تأتي بهم أحزاب لا سلطة للولاة عليها سوى المعايير العامة، مثل الحصول على الشهادة الجامعية وخلو صحيفة الشخص المرشح للموقع الدستوري من سوابق جنائية!! وبسخاء وكرم يتم توزيع الوزارات على الأحزاب التي لا دور لها.. ولا صحف ولا عناوين ولا جماهير، ولكنها أحزاب مدربة على الوقوف أمام أبواب السلاطين.. وبعد ذلك تتبقى للوالي وزارتان فقط ومطالب في ذات الوقت بتشكيل حكومة تمثل المجتمع العريض، لكل قبيلة ممثل لها من حصة المؤتمر الوطني، وإذا لم تنل قبيلة حظها من نصيب المؤتمر الوطني تخوض معركة مقدسة مع الوالي تستعين فيها بكل الأسلحة.. صحافة تكتب ونواب يتحدثون في المنابر العامة ومجلس تشريعي مستعد لإثارة زوابع رعدية وأمطار في فصل الصيف.. ولا عجب إن تصاعدت خلافات داخل المؤتمر الوطني بكسلا على خلفية الحكومة الجديدة التي أُعلنت نهاية الشهر الماضي، ولم تستوعب كل القيادات المتطلعة إلى السلطة.. وما أكثرها في كل الولايات.. وكسلا تقوم على ثلاثة شعب الهدندوة في الشمال والبني عامر في الوسط والشرق.. والشكرية في الجنوب.. وبين هؤلاء وأولئك، الفلاتة والهوسا والأمرأر واللحويين في خشم القربة والرشايدة الذين يمثلون ثقلاً اقتصادياً ووجوداً اجتماعياً.. وأكثر من (400) ألف من اللاجئين الذين تحتضنهم كسلا في المعسكرات، ومثلهم مواطنون في الأحياء السكنية بالمدن والقرى، وهذا الواقع شديد التعقيد يجعل احتجاجات بعض القيادات أمراً مألوفاً، خاصة بعد ضمور كعكة السلطة ودخول أحزاب عديدة حلبة القسمة.. وكان القيادي “محمد الأمين ترك” وهو وزير سابق ظل يقفز من وزارة لأخرى، ويتزحزح جبل “توتيل” من موقعه ولا يغادر “ترك” كرسي السلطة حتى غشيته نوائب التجديد، فأخذ يقود من حين لآخر صراعات مع الولاة بزعم أن المحليات الشمالية وهي (الأفقر) والمهددة بالجفاف هذا العام تمثيلها يقل كثيراً عن نصيبها.. لكن القيادي بالمؤتمر الوطني ولاية كسلا “محمد جعفر محمد علي” أمين الاتصال التنظيمي يقول بعد تشكيل الحكومة رداً على ما أثاره “ترك” إن موقف الرجل مضخم ويأتي في سياق تباين الآراء واختلاف وجهات النظر لكنه لا يرقى إلى وصفه بالأزمة، وأشار القيادي “محمد جعفر” إلى أن المؤتمر الوطني بولاية كسلا يشهد استقراراً وانسجاماً في كل أروقته ومستوياته التنظيمية، ويستشرف الحزب بالولاية مرحلة العمل بروح الفريق ورضا تام من قواعد الحزب بالولاية عن القيادة الحكيمة للسيد رئيس الحزب “آدم جماع” ونائبه “محمد أحمد علي”، وأكد القيادي في رسالة مباشرة للاحتجاج باسم المحليات الشمالية أنها مثلت جيداً في مستويات الحكم كافة بالولاية، وأبرز أبناء المحليات الشمالية العميد ركن “محمد عيسى عبد القادر” معتمد تلكوك، و”محمد علي الهداب” معتمد محلية ريفي ود الحليو، والأستاذ “محمد أوهاج” معتمد محلية نهر عطبرة، والفريق شرطة “محمد أحمد أونور” معتمد حلفا الجديدة، إضافة إلى الأستاذة “عائشة آدم سيدي” وزير الشؤون الاجتماعية.. لكن (جلابية) السلطة تقاصرت عن كسوة الناظر “ترك” الذي ينظر لتمثيل المحليات الشمالية من خلال شخصه.. وتلك من المشكلات عصية الحل.. فالاحتجاج على تكوين أي حكومة ولائية يأتي من الذين يتجاوزهم قطار التعيين، ويبحثون عن القبيلة والعشيرة لتحملهم على ظهرها إلى كراسي السلطة والحكم.. والمحليات الشمالية لولاية كسلا تشهد تجربة جديدة في تجميع القرى الصغيرة المتناثرة في وحدات سكنية أكبر بتمويل من المالية وصندوق تنمية وإعمار شرق السودان، وهذا ربما من الأسباب التي جعلت المركز والمؤتمر الوطني في كسلا يتفق على الوزيرة “عائشة آدم سيدي” لتشرف على تلك المشروعات الكبيرة مثل قرية (أكلا) الواقعة في ريفي أروما.. وقصة تلك القرية تبدأ من حياة سكان الريف الغارقين في فقرهم وعوزهم وحاجتهم إلى تنمية مدخراتهم الصغيرة إن وجدت، والإنسان هناك لا يملك أي شيء سوى النظر إلى السماء التي ترعد ولا تمطر.. والرياح الذي تحمل ذرات التراب أو الغبار.
“أكلا” مغزى ومعنى
قرية “أكلا” هي واحدة من قرى (البجة) في محلية أروما التي تعيش على فيضان نهر القاش.. يزرع الأهالي الذرة بعد انحسار نهر القاش إذا فاض، ويتصارع الإنسان والحيوان والنبات والتربة في الفوز بالنصيب من ماء النهر المجنون عند مدينة كسلا والمسكين الوديع حينما يتجه شمالاً قبل أن يجف وينضب.. وبسبب الطبيعة سكن في مناطق البجة بشرق السودان الفقر بكل تبعاته، وحيثما حل الفقر تبعه المرض والجهل.. وقيل الكفر.. لكن الأخيرة لا مكان لها هنا في أرض المحاربين الفرسان.. فالهدندوة هم من حاربوا رأس الكفر في الزمان القديم، ونصروا المهدية قبل نصرة ابنهم الفارس “عثمان دقنة”، لكنهم (أُهملوا) تنموياً.. ومن كانوا يمثلون المنطقة في السلطة يمثلون بها.. واليوم تقف تجربة تجميع القرى شاهد إثبات على أن الحكومة قد جاءت متأخرة.. وهذا خير من أن تغيب ولا تأتي.
وفكرة القرية النموذجية هي تشييد عشرة آلاف وحدة سكنية من الطوب والعشب الجاف، وتطوير مهارات المرأة الريفية بتعليمها الزراعة الصغيرة من خلال جمعيات اشتراكية حتى خيل إليك أن السودان يمضي في طريق الاشتراكية الشيوعية القديمة، وليس نظاماً إسلامياً يتهم عند خصومه من اليساريين بالرأسمالية.. قرية “أكلا” التي وصلها وفد الصحافيين برفقة الوالي بعد نصف ساعة من السير على الطريق القومي (كسلا- بورتسودان) وفي قلب الصحراء الجافة جداً شُيدت القرية من الطوب والعشب مع خدمات المياه والكهرباء ومسجد يقاوم زحف الرمال.. ومدرسة لتعليم تلاميذ نجباء لكنهم حرموا من حق التعليم في السنوات التي انقضت بما في ذلك سنوات الإنقاذ التي بلغت الآن (27) سنة.. والوزيرة “عائشة” التي تنتمي لتلك المنطقة ومعها الأمين العام لوزارة الثقافة والإعلام الأستاذة “أميرة”، تنشط في جبهتين المؤتمر الوطني والجهاز التنفيذي، وتتوقع حكومة كسلا أن تساهم القرى النموذجية في توطين الرُحّل وتجميع القرى المتناثرة وتنمية مدخرات المرأة الريفية.. وأرياف أروما من أفقر الأرياف في السودان ظلمتها الطبيعة وظلمها النخب من أبنائها الذين يمتطون الفارهات باسم هؤلاء البسطاء.. لكن مشروع تجميع وتطوير القرى تنفذه حكومة كسلا يمثل بارقة الأمل لمستقبل آتٍ.
{ الإصلاح الصعب
مسألة الإصلاح في ولاية مثل كسلا أكثر تعقيداً.. وفي المؤتمر الصحافي الذي تحدث فيه الوالي “آدم جماع” ضرب مثلاً أثار استغراب الجميع: كيف تنهض الولاية والمقعدات تمسك بتلابيبها؟ وقال الوالي إن إصلاح الخدمة المدنية من الشعارات التي تُرفع من وقت لآخر، لكن في الواقع هناك أزمة متجذرة في الولايات، وضرب مثلاً بحملة التفتيش التي قادها الوالي بنفسه حينما طلب ملفات الموظفين في وزارة التخطيط العمراني وتفاجأ بأن مهندساً خريج حاسوب هو من يتولى موقع مهندس المساحة.. قال الوالي، سألت: ما علاقة خريج الحاسوب بالمساحة؟ وكانت الإجابة (ما كلها هندسة) فأصدرت قراراً فورياً بنقل مهندس الحاسوب من إدارة المساحة.. وفي وزارة المالية وجدت خريج فقه وعلم حديث يعمل مراقباً مالياً، فأمرت بنقله إلى وزارة التربية كمعلم.. لكن هذه القرارات وجدت مقاومة، وشن البعض حملة شعواء بادعاء أن الوالي قد أمر بنقل أبناء قبيلة محددة من مواقعهم وفي ذلك استهداف لتلك القبيلة.
ومن عجائب ما سمعت في كسلا من مدير جامعة كسلا وهو من الكفاءات النادرة والعلماء الذين تبحث عنهم بلدان النفط، العالم المتخصص في طب النساء والتوليد، لم يهمل البحوث العلمية وينصرف فقط لمهامه الإدارية كمدير لجامعة كسلا.. وللرجل بحث علمي عن وفيات الأمهات في الريف الشمالي لولاية كسلا.. أسبابها وطرق علاجها، وكان بجامعة كسلا أستاذ آخر تم الاستغناء عن خدماته لأسباب إدارية، وهو من أبناء المنطقة التي شملها البحث العلمي لمدير الجامعة.. لم يتورع الرجل في إثارة قضية البحث العلمي وتحريف مقاصدها وتصويرها بعين القبيلة والعنصر.. فحرض عامة الناس على مدير الجامعة، ووجد صحافة في الخرطوم تنشر (تهريفاته).. وذهبت القضية إلى المحاكم الآن!!
في ظل هذا الواقع الصعب يقول الوالي “جماع” إنه لن يستجيب للضغوط ومحاولات الابتزاز، وقد أثيرت من قبل في وجه حكومته قضية تصديقات الأراضي السكنية، وأقسم الوالي إن كل التصديقات كانت إما لقدامى الموظفين أو قدامى المحاربين، ولم ينل واحد من أسرته أو عشيرته متراً من الأرض.. وتساءل “جماع”: كيف لا أمنح من عمل في خدمة حكومة السودان أكثر من أربعين عاماً وهو لا يطلب أكثر من قطعة أرض لأسرته؟؟
{ الميرغني وغرب القاش
لا حديث لمدينة كسلا اليوم غير فارس المدينة فريق الميرغني كسلا وعودته المرتقبة لمنظومة الدوري الممتاز، بعد أن كان الميرغني من فرسان الدوري الممتاز وظل يغذي شرايين الأندية بأفذاذ اللاعبين أمثال “مهند الطاهر”.. و”الطاهر حماد”.. و”بدر الدين قلق”.. ويضع الجنرال “أحمد طه” وهو من أقطاب وقادة الميرغني كسلا آمالاً وأحلاماً بأن يعود الميرغني فارساً ضمن فرسان السودان، واتحاد كرة القدم بكسلا رغم شح المال وضعف عائدات مباريات الدوري المحلي ظل يغرس كل يوم شجرة في استاد كسلا، وبدأت ثمار الدورة المدرسية غير المباشرة تتساقط على المدينة والولاية، واستاد كسلا قد تم هدم مقصورته الرئيسة واستجلاب كشافات إضاءة حديثة من الصين ينتظر تركيبها، إضافة إلى تركيب مقاعد للمساطب الشعبية.. وكسلا تنتظر من أولاد المدرب “تبيدي” تحقيق انتصارات تعيد للأنيق أناقته.. وتبعث كرة الشرق من جديد خاصة بعد أن كتب فريق شرطة القضارف اسمه بأحرف من فضة في موسمه الأول بالدوري الممتاز رغم أن فريق الشرطة القضارف يمثل الشرطة وليس المجتمع المدني مثل أسود دارفور الذين يمثلون الجيش، والدفاع الدمازين الذي يمثل الفرقة العسكرية التي ترابط هناك.. ولكن صعود الميرغني كسلا يعدّ إضافة حقيقية للقوى المدنية بعد أن سيطرت القوات النظامية على فرق الممتاز خرطومياً وولائياً.. وفي غرب القاش ينهض الملعب الأولمبي الذي تكفل به سكان غرب القاش وهم ملح كسلا وقلبها النابض وساعدها الأخضر، هؤلاء الكادحون من الهوسا والبرنو والبرقو الصليحاب يجمّلون مدينة كسلا بالعطاء.. ويكفيهم مشروع النفير الذي يحمل الملعب الأولمبي على أكتاف الرجال.. ولغرب القاش قصة نعود إليها.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية