بعد ومسافة
الرئيس صاحب المزاج المتقلِّب!
مصطفى أبو العزائم
ما كتبناه بالأمس حول العقوبات الأمريكية الجائرة المفروضة على بلادنا، وجد حظه من النقاش مع عدد من المهتمين والزملاء والمتابعين، على اعتبار أنه شأن يتصل بحياة الناس ومعاشهم ومستقبل البلاد، وكنا قد أشرنا إلى ذلك ضمناً خلال حوارنا القصير مع الأخ الكريم فضيلة الشيخ “عبد المحمود أبو” الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار صبيحة (الخميس)، ونحن نشارك في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدعوي الخامس لجماعة أنصار السنّة المحمدية بالخرطوم.
أحد الأصدقاء وهو أستاذ للعلوم السياسية بالجامعات السودانية، كان متشائماً إلى أبعد الحدود، وقال إن مثل الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترمب” لا يمكن الوثوق به لأنه ينظر للسياسة عموماً نظرة التاجر الباحث عن الأرباح دوماً، لا تهمه مبادئ ولا يرتكز على قيم، وهو رئيس صاحب مزاج متقلب لا يثبت على رأي إذا ما كانت المصالح متحركة.. وأيده في رأيه هذا عدد من الذين تداخلوا وناقشوا موضوع رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، وقد وجدت أن هناك حالة من الإحباط العام قد ضربت الكثيرين تجاه أمريكا وإدارتها الجديدة، خاصة بعد أن تم تأجيل قرار رفع العقوبات إلى الثاني عشر من أكتوبر المقبل.
وجدت أن حالة الإحباط ذاتها قد انتقلت إليّ وربما بصورة أسوأ، لأنني استصحبت معي معنى (المصالح الأمريكية) في المفهوم السياسي الأمريكي، وهي تعني في المقام الأول ضمان عدم تهديد الأمن القومي الأمريكي، ثم ضمان عدم تهديد الأمن الإقليمي والعالمي، وتعني بعد ذلك محاربة كل (من) و(ما) تحاربه الولايات المتحدة الأمريكية، وتعني حجم تأثير “واشنطن” على غيرها من عواصم الدنيا، من خلال مبدأ تحقيق المصالح عبر إدراك مصادر القوة، وتبيان الأهداف التي تسعى النخب الحاكمة إلى تحقيقها من خلال سلوكها السياسية في البيئة الدولية، لذلك ترتبط السياسة الأمريكية الخارجية دائماً بحجم الإمكانيات الذاتية والطموح السياسي، إلى جانب تأثر عوامل البيئة الخارجية من مواقف ومتغيرات ومصالح.
عدت إلى الوراء قليلاً لأقف عند مواقف “واشنطن” تجاه الرئيس الليبي الراحل “معمر القذافي”، فوجدتها تتناقض حسب المتغيرات، فبعد أن كانت ليبيا و”القذافي” هما (العدو رقم 1) في العالم، خاصة بعد حادثة (لوكربي) وإسقاط طائرة الـ(بان أمريكان) وتجييش كل أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط “القذافي”، تحول الأخير فجأة إلى حليف، بعد أن قام بتدمير أسلحة الدمار الشامل وبعد أن قام بدفع كل التعويضات التي فرضت عليه لأهالي ضحايا الطائرة وغيرها، لكن مع أول فرصة للتغيير كانت “واشنطن” داعمة للقوى الجديدة التي تسعى للإطاحة بالعقيد “القذافي”، وقد احتضنت “واشنطن” من قبل اللواء “خليفة حفتر” للاستفادة منه في مثل هذا اليوم، وعملت مع حلفائها لإسقاط العقيد “القذافي” الذي لم يهنأ بتحالفه مع الأجهزة الأمريكية.
الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم القوة عندما تريد تغيير نظام ما، وعندما تفشل تلجأ لإذكاء نيران الثورات الشعبية والتمرد، وعندما تفشل هذه الوسائل تلجأ إلى المماطلة والتسويف، وربما– في مثل حالة السودان– تتحجج بأن السلام لا زال أملاً مرجواً في المنطقتين، وأن الحكومة لم تقطع شوطاً مقدراً لتواصلها مع المتمردين سواء في دارفور أو المنطقتين، وقد تتحجج بشؤون داخلية في السودان لتأجيل قرار رفع العقوبات مرات ومرات، مثل ما يروج عن عزم الحكومة التضييق على وسائل التواصل الاجتماعي وهو خبر غير صحيح، لكنه سيكون (حجة والسلام)، ومثل الشائعات المخدومة بدهاء عجيب عن قرار إلزام المدارس المسيحية بفتح أبوابها أمام التلاميذ أيام (الأحد) والالتزام بالعطلة الرسمية فقط في يومي (الجمعة والسبت)، وهو غير صحيح كما نعلم أيضاً، ثم تظهر بعد ذلك قضايا مثل حادثة طلاب جامعة “بخت الرضا”، أو ما يسمى بقضية أبناء دارفور هناك، ولن يرسخ في العقلية الأمريكية أن والي ولاية النيل الأبيض نفسه من دارفور، ونائب رئيس الجمهورية وقيادات كثيرة وكبيرة في الدولة كلها من دارفور، وربما يرتبط ذلك بالبيان الصادر عن السفارة الأمريكية قبل فترة عن تردي الأوضاع الإنسانية والأمنية بجبل مرة.. ثم ربط ذلك بقرارات حكومة شرق ليبيا المدعومة من “واشنطن” القاضية بطرد كل الدبلوماسيين السودانيين العاملين في القنصلية السودانية بالكفرة بمزاعم تورطهم بالتدخل بأعمال تهدد الأمن الليبي.
شخصياً لست متفائلاً وأطلب من الجميع ألا ترتفع لديهم سقوفات التفاؤل، وأن نكون جاهزين للبدائل حال مددت “واشنطن” أو أجلت اتخاذ القرار.. وإن فعلت غير ذلك، أي رفعت العقوبات، فعلينا أن نصلي شكراً لله تعالى.. لا نستطيع التنبؤ أو التوقع، فالرئيس الأمريكي رجل هوائي.. متقلّب المزاج وباحث عن المصالح.