بعد ومسافة
ورحل رجلٌ عظيم اسمه “إبراهيم عبد القيوم”
مصطفى أبوالعزائم
هو الموت .. غاب عن دنيانا أستاذنا الجليل والصحفي المعتق الذي استطاع الجمع بين ختميته واتحاديته إلى جانب ولائه للخط السياسي المايوي الأقرب لليسار، وقد عرفته – رحمه الله – في بداية عملي الصحفي متعاوناً لعدة أشهر مع صحيفة (الأيام) في العام 1979م عندما لم يكن التعيين يتم مباشرة إلا عن طريق اختبارات دقيقة تتطلب فترة من الرقابة على الأداء والقدرات لا تتوفر إلا بالتعاون لعدة أشهر، وقد بدأت مع أستاذنا الجليل الراحل المقيم “محمد الخليفة طه الريفي” الذي كان يحمل تاريخاً ناصعاً وممتداً من الخبرات في مختلف مجالات العمل الصحفي في الصحافة الحزبية وصحافة فترة الحكم العسكري، بل ترأس تحرير صحيفة النظام (الثورة) وكان صحفياً ملء السمع والبصر يسعى لكسب وده الوزراء والكبراء والقراء والعامة من أصحاب الحاجات من الذين كانوا يسعون إلى إيجاد حلول لها من خلال النشر الصحفي. وكانت صحيفة (الأيام) في تلك الفترة واسعة الانتشار عظيمة التأثير، وكان النظام المايوي يتخير أفضل كوادره ليتولوا مسؤولية القيادة في دوره الصحفية، وكان رئيس مجلس الإدارة في ذلك الوقت الأستاذ والمفكر والسياسي الفذ وأمين الفكر والمنهجية في الاتحاد الاشتراكي الأستاذ “أحمد عبد الحليم”، وقد خلف سعادة اللواء “عوض أحمد خليفة” ذلك الضابط العظيم والشاعر الرقيق المقرب من رأس النظام الرئيس “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – بينما كان أستاذنا “إبراهيم عبد القيوم” يتولى رئاسة تحرير الصحيفة الأوسع انتشارًا وينوب عنه أستاذنا الجليل الراحل “حسن ساتي” .
وجدت اهتماماً وتدريباً من الأستاذ “محمد الخليفة طه الريفي”، وكان عملي يُبْرِز اسمي من خلال الصفحة الأخيرة التي حملت اسم (المرايا) وهي جمع مرآة، وهي بالحق كانت مرايا تعكس حركة المجتمع من كل جوانبه وكانت بحق هي الصفحة الأولى (الثانية) للصحيفة والتي يبدأ بها القارئ رحلته مع الاطلاع، وكانت تلك مدرسة متميزة اختص بها قلة قليلة من صحافيينا كان أبرزهم العبقري “محمد الخليفة طه الريفي”، وكان رئيس التحرير يرجع للأستاذ “الريفي” في كثير من الأمور ويستشيره بحكم الخبرة والمعرفة ورجاحة الرأي، وما كان يلقي لنا بالاً نحن معاونيه من المحررين وهم الأساتذة “هاشم عثمان”، وسامية عبد الرحمن ، وإشراقة إبراهيم، وإبراهيم الماظ، وشخصي الذي التحق بهم متعاوناً، والذي سرعان ما تم اعتماده محرراً أوكلت له مهام عديدة وتمت الاستعانة به في كل أقسام الصحيفة تقريباً وفي سكرتارية التحرير التي كانت مسؤوليتها مناصفة بين الأستاذين الجليلين محي الدين تيتاوي – الدكتور لاحقاً- ويوسف عمر، يعاونهما الصديق الرقيق الراحل الأستاذ أحمد عثمان الحاج الذي ترك الصحافة ليلتحق بسلك المحاماة لاحقاً.
جاء الأستاذ “إبراهيم عبد القيوم” ذات يوم وسأل عن أحد الزملاء وهو الأستاذ “أسامة سيد عبد العزيز” الصحفي الموهوب صاحب الأسلوب المتميز والمفردات الرشيقة الراقصة، ولم يكن موجوداً في مكاتب الصحيفة الملحقة بالمطبعة في الخرطوم بحري، ولم تكن مكاتبنا تضم سوى أقسام سكرتارية التحرير والمنوعات والقسم الثقافي ومكاتب الصحيفة الانجليزية (سودان ستاندرد) إلى جانب مكتب رئيس مجلس الإدارة وبقية المكاتب الإدارية إضافة إلى المطبعة بكل أقسامها. هنا تفحصنا الأستاذ “إبراهيم عبد القيوم” وسألني أن أرافقه إلى مشوار عمل وعلي أن أحمل معي أوراقي وأقلامي وأن أبحث عن المصور الأستاذ “عبد الرحيم قيلي”، قلت له إن “قيلي” كان في مكتب الخرطوم، وهو الآن غير موجود لأنه في عمل خارجي، فقال لي: (خلاص نمشي وقيلي يصور وقت تاني) وقد كان .. خرجت مع الأستاذ “إبراهيم عبد القيوم” في أول مشوار عمل بناءً على طلبه ولم أسأل عن الجهة المقصودة وركبنا سيارته البيجو 404 الزرقاء، وتوجهنا إلى داخل المنطقة الصناعية بحري وتوقفنا قريباً من مدخل أحد مصانع الألمونيوم والأواني المنزلية، وسأل أستاذنا “إبراهيم” إن كان السيد “ياسين ” موجوداً فقيل له إن الرجل بانتظارنا في مكتبه .
توجهنا نحو الداخل ودلفنا إلى مكتب فخم، فقام رجل أبيض اللون تبدو ملامحه مثل ملامح رجل أجنبي، كان يرتدي قميصاً قصير الأكمام وبنطلون جينز وعلى وجهه ابتسامة عريضة من فمٍ تتدفق منه عبارات الترحيب الحارة، وعرفني أستاذناإبراهيم” على الرجل وقال لي إنه رجل أعمال تونسي اسمه “ياسين هميلة” جاء للاستثمار في السودان وأنشأ هذا المصنع وقد تزوج من سيدة سودانية وطلب إلي أن أحاوره، وقد بدأت حواراً جميلاً وممتعاً مع رجل الأعمال التونسي حول حياته واستثماراته في السودان وأسرته واهتماماته وما حببه في السودان، باختصار كان الحوار شاملاً ولم يتدخل رئيس التحرير بكلمة، بل إنه أثنى على المحاور التي تطرقنا لها، ويبدو أن الحوار قد أعجب السيد “هميلة” نفسه فأصر على أن نتغدى معه في منزله بالخرطوم. وأذكر أن منزله كان في حي العمارات بالخرطوم وقضينا معه وقتاً طيباً وقد اطلعنا على زيارة وفد تونسي رفيع المستوى إلى البلاد خلال أسابيع يمثل الحزب الدستوري الحاكم وقتها في تونس ووعدنا بترتيب لقاء مع قيادة الوفد، ونشأت علاقة صداقة جديدة بيننا وبين الرجل الذي أوفى بوعده بعد فترة بأن رتب لنا لقاءً مع الوفد التونسي الرفيع في منزله وتم نشره في صفحتين.
كان ذلك أول تكليف لي من الأستاذ “إبراهيم عبد القيوم” لتتوالى التكليفات تباعاً حتى أنني فكرت في التمرد على تلك التكليفات وما كنت أدري أنها كانت خطوات واسعة للتدريب على السير في طريق الصحافة، وكان رحمة الله تعالى عليه يهتم بكل أبنائه وبناته في التحرير إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تمردتُ عليه علناً في أكثر من موقف لكنه لم يغضب أو يثر بل ابتسم في آخر موقف تمردتُ عليه فيه عندما أخذت مع مجموعة من الزملاء في تحريض المحررين على الإضراب أواخر أيام العهد المايوي، وناداني إلى مكتبه وقال لي إن تقارير الأمن تصل إليه وتقول له إن فلاناً – مع ذكر اسمي – يتحرك ويقود مظاهرات في الشارع ضد النظام . هنا صمتُ ولم أنكر الأمر، لكنه ابتسم وقال لي أنني إن لم أخرج في تلك المظاهرات فإنني سأكون منفصماً عن جيلي ولن تكون لي علاقة بمن هم في مثل عمري، وهم الذين يرفعون ألوية الثورة في وجه النظام الذي كان أستاذنا “إبراهيم عبد القيوم” أحد سدنته العظام – رحمه الله – خاصة وأنه كان رئيساً لمجلس الإدارة والتحرير ثم أُبعد عنهما وجيئ بالأستاذ “حسن ساتي” بديلاً له لكن أستاذنا “حسن”نفسه أطيح به أخريات العهد المايوي بعد أن اتخذت الصحيفة والعاملون بها موقفاً من إعدام زعيم الجمهوريين الراحل الأستاذ “محمود محمد طه” وتم تنسيق بين رئيسي تحرير صحيفتي (الأيام) و(الصحافة) الأستاذين “حسن ساتي” و”فضل الله محمد” على توحيد المواقف ضد إعدام شيخ تجاوز السبعين من عمره.