رأي

مسألة مستعجلة

بل وسائط التباعد الاجتماعي!!
نجل الدين ادم
وأنا أنظر لهذا الجيل أتحسر على ما فقدوه من طعم للحياة، في ظل التسارع الكبير ومحاصرة التكنولوجيا لهم ولنا، في ظل السيطرة الكاملة لتقنية (الواتس) و(الفيس بوك) والفيديو (كونفرانس)، على حياتنا وانشغال هذا الجيل بها، ربما هرباً من الضغوط اليومية.
حرمت الشقق المفروشة الأطفال ضوء الشمس، فأتوا ضعفاء في أجسادهم، غابت الحيشان الكبيرة ولم تعد استضافة الضيوف والكرم الحاتمي عنواناً للكثير من الشعب السوداني، أطفال لم يهنأوا بأكل الطين، لأن الكتل الخرصانية تحاصرهم من كل الاتجاهات، لم يجدوا سبيلاً لكي يكونوا هواة أو مخترعين في صناعة العربات من علب الصفيح، أو من صلصال الطين، لأن الغزو الصناعي والألعاب الجاهزة حرمتهم من ذلك الخيال، غابت (شليل) و(الحجلة)، وحل الأتاري والمسلسلات الملهية التي تسرق كل أوقات الأطفال والصبية يتعلمون منها وفق ما يريد ويهوى مرسل الرسالة أياً كان.
ما عادت تلك الرسائل الغرامية في الأوراق المزخرفة بالألوان الفرائحية يتصبر بها الأحبة كما كان، لأن القرب أصبح متاحاً بلمسه (زر) على الموبايل فأضحى حباً ماسخاً، يجعل من نهايات الزواج بكلمة طالق أمراً سهلاً، وردهات المحاكم الشرعية تشهد بذلك والأرقام والإحصائيات الكبيرة تحدثنا عن ذلك.
لم يعد الحب كالذي جسده الشاعر عندما استعصت عليه رؤية المحبوبة ومشاهدة وجهها، فما عاد القرب الآن ملهماً للشعراء، فمعين الشعراء في الغزل نضب، لأن كل شيء أصبح في متناول اليد، تستطيع هذه الوسائط أن تتسلل للغرف وضربت الحياء والتماسك الأسري، لذلك تولد الانهيار المجتمعي.
(الواتس) قتل المشاعر الإنسانية والتواصل، فبتنا نقتصر العزاء أو المباركة عبر (مسج) رسالة قصيرة، أو مكالمة هاتفية والسلام، نطلق على الوسائط أنها وسائط التواصل الاجتماعي ولكن العكس تماماً، لأنها باتت هي وسائل للتباعد الاجتماعي، وأنت تصبح وتمسي على والديك بالموبايل دون تكليف نفسك عناء الوصول!
الوسائط الحديثة تسرق كل ما هو جميل من ملامح الحياة البسيطة السهلة، حتى لمة الأسرة ووجبة الغداء ما عادت الجامعة لأهل البيت، لأن أياً من أفراد المنزل حمل ساندوتشاً وتوارى في غرفته بحثاً عن ملهاة تكنولوجية يرفه بها!
أحياناً أتمنى لو أن هذا الزحف والتطور التقني لم يحل علينا وجعلنا تقليديين، نسافر الأميال لتقديم واجب العزاء ونحمل بطاقات الدعوة للأفراح إلى منزل كل من نريد دعوته للمناسبة بدلاً من إرسال (مسج) جماعية، ليكتفي الطرف الآخر كما فعلت أنت، بإرسال مساهمته عبر تحويل رصيد أو غيره من الوسائل المبتكرة لتغيب كل معاني التواصل الاجتماعي الحميمة.
لم يقع هذا الضرر على الأطفال فحسب، بل على الأجيال السابقة كافة وهي تحاول أن تكون جزءاً من حقبة تعلم أنها ماسخة الطعم.
أتمنى أن تحدث ثورة عكسية لتعيد لنا ذلك الطعم ولو ليوم واحد.. والله المستعان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية