تقاليد خاصة.. ملتقى اجتماعي.. مسرح على الهواء
دلالة بيع السمك بالحصاحيصا
الحصاحيصا – عامر باشاب
سوق السمك بالحصاحيصا من أقدم الأسواق لبيع وشراء الأسماك بالجملة، ودائماً ما يكون منذ الصباح الباكر في حالة من النشاط والحراك والضجة مزدحماً بالحواتة وتجار البيع بالتجزئة وأصحاب المطاعم بالإضافة للزبائن العاديين، وهناك يجد الجميع راحتهم في اختيار الأصناف المعروضة من أنواع الأسماك التي يتم اصطيادها من النيل الأزرق، وبعضها من داخل قنوات الري الرئيسة التي تشق الأراضي الزراعية التابعة لمشروع الجزيرة مثل (الترع) و(الكنار). وداخل السوق الكل يشتري حسب إمكاناته المادية.. ومن الأشياء اللافتة في هذا السوق ابتكار طريقة شعبية للبيع والشراء تشابه لحد كبير الدلالات والمزادات العلنية حتى أنها عرفت بين الناس بـ( دلالة السمك)، وتتم عبرها عملية البيع والشراء حسب تقاليد وأعراف خاصة بمجتمع السماكة، وتتخللها بعض الطرائف والممازحات وقفشات تعكس روح الإلفة والترابط الاجتماعي بينهم، وتلاحظ أيضاً عدداً كبيراً من المهتمين بالأسماك بنشاطاتهم مختلفة.
{ الأب الروحي وأيام زمان
في البداية التقينا شيخ السماكة (الأب الروحي) العم “عثمان وزيري”، جلسنا معه أمام منزله بالحصاحيصا الحي الأوسط وهو أحد قدامى المنظمين لسوق السمك، حكى لنا بأن علاقة أهل الحصاحيصا بالسمك علاقة قديمة، يحبون أكله ويفضلونه على غيره من أنواع اللحوم، وأشار إلى أن أول سوق للسمك تأسس بصور تلقائية بالقرب من النيل ثم إلى الجزارة القديمة وسط السوق. وبعد إعادة تنظيم السوق انتقلنا بالقرب من مطاعم السمك بمدخل سوق الحصاحيصا، ومنها إلى السوق الجديد جنوب سراية أو (منزل) القاضي المقيم سابقاً، مباني الشرطة الشعبية حالياً.. وبالنسبة له قال “وزيري” إن علاقته بالسمك بدأت في الثمانينيات وانقطع عنها ثم عاد إليها مرة أخرى في التسعينيات، وفي الآونة الأخيرة توقف لظروف خاصة لكنه متواصل وقريب من السوق.. وبالعودة إلى الوراء يذكر “وزيري” من قدامى تجار السمك “الطاهر حسن علي موسى”، “علي إبراهيم عيد”، “حمدنا الله الصافي”، “عبد الله الضقالي” و”قسم قرقار” أما أصحاب مطاعم السمك فمنهم “التنقور”، “درار” و”عبد الحفيظ”.
{ زعيم السماكة
“أسامة عبد الرازق” شاب تجاوز منتصف الأربعين من عمره، هو من يشرف على سوق السمك بالحصاحيصا ويعدّ زعيم السماكة، ذكر لنا أن نصف عمره قضاه مع النيل وعالم الأسماك حتى صار مالكاً لعدد من المراكب، وكشف عن مواسم عديدة على مدار العام يجود فيها النيل الأزرق بالأنواع المختلفة للأسماك مثل: (قرور، كبروس، عجل، بياض، بلطي، دبسة، تمبيرة، ساوية، خشم بنات، قمار وشلباية)، وأضاف إن مواسم الصيد تعرف عند الحواتة بالأسماء مثل (الزلقة، الخضارة، الغباشة والحمارة)، وتحدث بحسرة مبدياً أسفه أن النيل في الآونة الأخيرة لم يعد وافر العطاء مثلما كان في السابق وقال: (لا ندري ما هي الأسباب التي جعلت كمية الأسماك تتناقص بصورة مستمرة)، واستطرد قائلاً: (سمعنا أن بناء سد النهضة الإثيوبي له أثر واضح في هذا وعبر صحيفتكم أطلب من أهل الاختصاص أن يجروا دراسة علمية تكشف الأسباب الحقيقية).
{ فكرة البيع بالمزايدات
بالنسبة لسوق السمك بالحصاحيصا أكد “أسامة” أنه سوق قديم جداً وعمليات البيع في البداية كانت تتم بعشوائية بالقرب من المرسى، وقبل عشرة أعوام تقريباً أتيت بفكرة بيع وشراء السمك بالمزاد وساندني في تنفيذها بنجاح كبيرنا العم “عثمان وزيري”، والحمد لله مستمرة ومستقرة وهي دلالة مبسطة نظمنا عبرها عملية البيع والشراء وحفظنا للجميع حقوقهم، وتبدأ الدلالة عند الثامنة صباحاً وتحضرها أعداد كبيرة من الناس كل من يرغب في شراء السمك (سبابة) و(أكالة)، وأصحاب المطاعم، ويأتي الحواتة باكراً بما اصطادت شباكهم، ويقوم عمال الدلالة بعرضها بالتوالي، ونبدأ بتحديد سعر للمعروض ثم تبدأ عملية المزايدة حتى يرسو البيع على صاحب السعر الأعلى.. وبالنسبة للتجار المداومين نترك لهم خيار الدفع في اليوم الثاني أو الثالث، أو الوقت المناسب معهم.
{ أعراف وتقاليد ولغة خاصة
أشار “أسامة” إلى أن الدلالة مع مرور الزمن وتقادم الأيام أصبحت لها أعرافها وتقاليدها ومصطلحاتها ولغتها الخاصة مثلاً (الأربعون جنيهاً) نطلق عليها (أربيعناية) والخمسون (خمسيناية) والمائة جنيه (مياية) والثلاثمائة جنيه نطلق عليها (تك تك)، و(عنقريب) يعني (أربعمائة جنيه) و(الخمسمائة جنيه) معروفة بيننا بـ(المدورة)، والألف جنيه (أرنب).
{ شعيب والشعب
“شعيب أبكر حسين” من أبناء منطقة (سبيس) ريفي العباسية تقلي صاحب مطعم الشعب بسوق السمك الجديد، ذكر أنه قدم للحصاحيصا في الثمانينيات، وعمل في سوق السمك القديم.. وعن أحوال السوق اليوم قال: (رغم ارتفاع الأسعار التي تسببت فيها ندرة السمك الجيد إلا أن هناك إقبالاً كثيفاً على السمك يومياً). وأشار إلى أن وجود المواطنين بالسوق في معظم الأوقات يعكس بوضوح كثرة الطلب على لحوم الأسماك الطازجة.. وقال إن الدلالة نظمت عملية البيع والشراء، والحمد الله نحن نجد كل الاحترام من “أسامة” المشرف على السوق، ودائماً ما يعطينا مهلة كافية لدفع وسداد ما علينا من مال، وهذا يؤكد الثقة في التعامل.
وفي ختام حديثه قال “شعيب”: (لابد من ذكر كل من كان لهم الفضل في نجاحي بالسوق من زعماء عالم الأسماك بالحصاحيصا، منهم العم سبيل أجبان، وكبيرنا الراحل درار محمد درار، والعم حسن كارينا بود راوة).
{ “الولف كتال”
عدد من الحواتة (الصيادين) أكدوا أنهم يأتون لسوق السمك يومياً ويحرصون على حضور الدلالة حتى وإن لم يكن لديهم ما يبيعونه، وهذا يؤكد أن الدلالة خلقت جواً اجتماعياً ألفه أهل الكار (السماكة) بمختلف تخصصاتهم، وبعضهم يأتي من مدينة رفاعة ومن مدينة أبو عشر.