قبل أن تذهب "أبيي" جنوباً.. (المجهر) تروي تفاصيل رحلة السبعة أيام (2-2)
“أبيي”.. أرض المراعي والبترول التي أرقت مضاجع الشمال والجنوب
سوق (الزراف).. ملتقى التعايش السلمي بين “دينكا نقوك” و”المسيرية”
المياه المعدنية والسيارات واردات الجنوب مقابل الدقيق والسكر والجازولين
أبيي ـ سيف جامع
سوق فيض الزراف أو (أميت) بلغة “الدينكا” يقع على بعد (7) كيلومترات شمال أبيي المدينة.. أسس السوق العام الماضي باتفاق بين “المسيرية” و”دينكا نقوك” وتوسع سريعاً، وشهد حركة تجارية رائجة ليصبح أكبر الأسواق بالمنطقة المتنازع عليها بين دولتي السودان والجنوب، وتحول إلى مستودع لتصدير أهم السلع الإستراتيجية إلى الجنوب حيث تتحرك منه السيارات المحملة بالبضائع السودانية إلى الجنوب بواسطة تجار من “جوبا” و”واو” وغرب الزاندي ومناطق شرق الاستوائية.. ويتكون السوق من ألفي متجر يعمل بها حوالي خمسة عشر ألف شخص.
لكن من مآخذ السوق أنه لا توجد به أية سلعة جنوبية ذات جدوى اقتصادية غير الماشية من فصيلة “التقر” غير المرغوبة تجارياً وبعض الأثاث الخشبي المستعمل والأجهزة الكهربائية، وكذلك المياه المعدنية التي تصنع في جوبا.. لكن في الجانب الخفي من السوق تتوفر كميات كبيرة من البيرة أفريقية الصنع والسجائر.. وهذه المعادلة التجارية غير المتكافئة جعلت السلطات في الخرطوم تتضجر من السوق رغم كونه نموذجاً للتعايش السلمي بين “المسيرية” و”دينكا نقوك” إذ إنه يعدّ مهدداً للاقتصاد، لا سيما وأن الجنوبيين أكثر المستفيدين من قيامه، حيث أصبح منفذاً حراً بلا قيود لتصدير الدقيق والذرة والسكر والبصل والزيوت وغيرها من السلع الغذائية، ويتم الشراء بالجنيه وليس الدولار الأمر الذي يمثل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد السوداني.. ووفقاً للمراقبين فإن حجم التداول النقدي اليومي بالسوق يبلغ أكثر من مليار جنيه، فضلاً عن نشاط صرف العملات (الدولار ـ الجنيهان السوداني والجنوبي)
{ توافق وانسجام
وحول فكرة إنشاء السوق يقول العمدة “يحيى جماع” إن فكرة التعايش بدأت باتفاق شفاهي بين الرعاة والمزارعين من “الدينكا” و”المسيرية” في شهر فبراير (2016) وبعدها تطور هذا الاتفاق إلى لجنة مشتركة (10) من العمد “المسيرية” و(10) من السلاطين من جانب “الدينكا”، حيث تم الاتفاق على أن يكون هناك تعايش سلمي يبين الطرفين، وتخضع إدارة المنطقة لهذه اللجنة.. أما الجانب القانوني، فقد تم الاتفاق على تكوين محكمة شعبية من (12) عضواً مناصفة وشرطة مجتمعية من (34) فرداً وهذه مهمتها حفظ الأمن والنظام في الأسواق التي تم الاتفاق على إنشائها وهي (النعام، قولي والدائر)، وحسب الاتفاق فإن نشاط هذه الأسواق يتوقف في شهر أغسطس لظروف الخريف خاصة سوق النعام أميت، لكن- والحديث للعمدة يحيى- (في شهر أغسطس طلب “الدينكا” أن تستمر الأسواق حتى نهاية العام لأنها مصدر السلع الغذائية الوحيد لهم، وقد كان، فاستمر السوق).
وحسب القائد السباق لجيش “المسيرية” (عبدالرحمن ابوسفة) فإن اللجنة التي شكلت لإدارة السوق تتبع لها شرطة تقوم بإدارته وتوجد حراسة بالسوق لحبس المدانين ومهمة اللجنة الفصل في الخلافات والنزاعات، وقال إنهم فصلوا في تسع قضايا قتل بدفع الدية كاملة.
{ (يونيسفا) ومهمة حماية السوق
يخضع سوق (الزراف) إلى حماية دائمة من قبل القوات الإثيوبية التابعة لإشراف الأمم المتحدة، حيث تحيطه دوريات مسلحة بـ”الدوشكا” من كل جانب تحسباً لأي طارئ، خاصة بعد تردد أحاديث وهواجس عن أن بعضاً من المخربين وأعداء السلام يتربصون بالسوق.. وخلال وجود وفد مؤسسة عمليات التنمية بالسوق اعترضه بعض الجنود من (يونيسفا) قبل أن يتأكدوا من طبيعة مهمته وقال الضابط التابع لـ(يونيسفا) إنهم يعملون على حماية أي شخص داخل “أبيي”، وقالوا للوفد إنه يجب عليهم طلب حراسة من بعثة (يونيسفا) لتأمين سلامتهم.
{ متفلتون بين التجار
عدد من مواطني “أبيي” عبروا عن سعادتهم بإنشاء السوق وقالوا إنه ساهم في بسط الأمن والاستقرار كونه وفر فرص عمل للمتفلتين وقطاع الطرق.. وخلال حديث (المجهر) مع العامة بالسوق أكدوا حرصهم على ضرورة استمراره، وطالبوا الحكومة بدعمه بتسهيل وصول البضائع المشروعة إليه.
ورصدت (المجهر) حركة دؤوبة بالسوق، حيث تدخل السيارات القادمة من الجنوب وتخرج محملة بالبضائع، كما أنه ساهم في توفير فرص للشباب من “دينكا نقوك” الذين يعملون في الشحن والتفريغ، بالإضافة لـ”بائعات الشاي” من دولة إثيوبيا ودولة الجنوب، وكذلك توجد به وكالات لصرف العملات ومكاتب ترحيل للبضائع.
مكاسب السوق التي تحققت أذهلت الجميع من الجانبين (المسيرية ـ الدينكا)، خاصة قيادات الإدارة الأهلية من السلاطين والعمد، وكذلك بعثة (يونيسفا) نسبة لحالة التمازج والانسجام بالسوق.. ويعدد العمدة “يحيى جماع” أبرز المكاسب التي تحققت المتمثلة في التفاف الجميع حول السلام والتعايش، كما أن الاتفاق الذي أقيم بموجبه السوق سمح لرعاة “المسيرية” بالعبور لمنطقة (الجرف) جنوب “أبيي” المدينة نسبة لتوفر المياه والكلأ بها. وأكد “جماع” أن ذلك لم يكن متاحاً قبل هذه التفاهمات، وكذلك أصبح “الدينكا” يعبرون من خلال هذه المنافذ إلى المدن أقصى الشمال.. وبالفعل ينتشر “الدينكا” في القرى كافة التي تقدر بـ(46) قرية.
{ أبيي المدينة.. ممنوع الاقتراب والتصوير
مثلت حادثة مقتل السلطان “كوال مجوك” قبل عامين ضربة قاصمة لـ”المسيرية” رغم أنهم مبرأون من الجريمة، لكنها خلقت أجواء مشحونة بالعداء المكتوم بين بعض من “الدينكا” و”المسيرية”، كما أنها حرمت “المسيرية” من الدخول إلى “أبيي” المدينة.. وبسبب ذلك التوتر تمنع قوات (يونيسفا) الإثيوبية “المسيرية” من العبور جنوباً خوفاً من حدوث احتكاكات بين الطرفين.. وبالمقابل يخشى “دينكا نقوك” حدوث أي طارئ رغم التعايش الذي يبدو للعيان، إذ يغادر “الدينكا” في المساء السوق إلى “أبيي” المدينة، ويسمح لهم بالعودة بعد الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الشمال للوصول إلى السوق والمناطق الأخرى التي يكسبون فيها عيشهم.
وفي مسعى منهم لإزالة التوتر وإبداء حسن النية وإعادة الثقة بين الطرفين إلى أيام عهد السلطان “بابو نمر”، أعلن العمدة “يحيى جماع” استعدادهم لدفع دية السلطان “كوال” إذا كانت تلك الخطوة تعيد الثقة وتعزز التعايش مع “دينكا نقوك”، مؤكداً أن “المسيرية” لم يقتلوه، ومن قتله يريد إشعال الفتنة بين الجانبين.
مدير عام مؤسسة عمليات التنمية “نواي إسماعيل الضو” أعلن عن التزامه بتدريب أعضاء اللجنة بالسوق، وتعهد بتوفير كادر طبي لتأسيس مركز صحي بسوق (الزراف)، ودعا أعضاء اللجنة إلى مواصلة جهودهم من أجل الاستقرار.
ويعدّ سوق (فيض الزراف) بمثابة مكسب كبير لدولة الجنوب خاصة أنه تتوفر به كل السلع الاستهلاكية، وتحظى السلع السودانية فيه بأهمية كبيرة لهم، لكن أكثر ما يعانيه التجار هو كيفية إدخال السلع إلى السوق، لذلك اتجه معظمهم إلى سلك طرق أكثر وعورة.. وكذلك الحال بالنسبة للجازولين الذي يهرب عبر (التُكتُك) ورغم الإجراءات الصارمة للسلطات السودانية إلا أن كميات مقدرة من الجازولين تذهب من سوق (الزراف) إلى دولة الجنوب بواسطة سيارات اللانكروزر.. أما الدقيق والسكر فيتم نقلهما عبر الشاحنات الكبيرة.
ويبدو أن السوق ليس حكراً على “المسيرية” و”دينكا نقوك” فقط، بل يؤمه الناس من مناطق السودان كافة، بالإضافة للإثيوبيات العاملات في بيع الشاي، والتجار من حاملي جنسية جنوب السودان حيث يتاجرون في أجهزة الموبايلات.. وهي تجارة رائجة، ويبلغ- مثلاً- سعر الجهاز (تنكو) حوالي (28) ألف جنيه جنوبي يعادلها بالجنيه السوداني (2,5) جنيه.
وصادفت (المجهر) خلال الزيارة عقد مجلس للجنة السوق بحضور الجانبين، حيث أكد سلاطين “الدينكا” حرصهم على التمسك باستمرار السوق، مشيرين إلى أنهم يعملون بعيداً عن أي أجندة سياسية فيما عبر عمد “المسيرية” عن سعادتهم بما يجري في سوق (الزراف)، مؤكدين أنه سوق للجميع ولكل السودانيين.