رأي

بعد ومسافة

“جوبا” واتجاهات البوصلة المضطربة
مصطفى أبو العزائم

سألني صديق مقرب صباح أمس، عن حقيقة ما يجري في دولة جنوب السودان، وإن كان هناك أمر خفي غير الظاهر، خاصة في إقالة رئيس هيئة الأركان في الجيش الشعبي لتحرير السودان اللواء “بول ملونق” ثم خروجه من جوبا مع مجموعة من مناصريه نحو منطقة نفوذه الحقيقي شمال بحر الغزال، وقال لي ذات الصديق إنه قرأ لي أواخر أبريل الماضي، مقالاً توقعت فيه ما حدث الآن، وإن اللواء “بول ملونق” سيطيح بالرئيس الجنوب سوداني الفريق “سلفا كير ميارديت”.
ولم يتوقف سيل الأسئلة من الصديق المقرب، وهو من المهتمين بالشأن السياسي، فدفع إلى بسؤال آخر هو (هل لمصر علاقة بما يحدث في دولة جنوب السودان؟).
رددت على صديقي بأنني لم أرجم بالغيب عندما كتبت على ذات هذه المساحة مقالاً صدر بالثلاثاء (25) أبريل الماضي، بعنوان (دولة جنوب السودان.. الأرض المحروقة..!)، وأشرت فيه إلى ما ابتدرني به هذا الصديق.. هناك كم هائل من المعلومات التي تتدفق من الجنوب إلى الشمال مثل مجرى النهل الخالد، وكلها تشير إلى الضعف الذي لحق بقبضة الرئيس “سلفاكير” على الحكم، مع تقلص سلطاته الفعلية حتى لم يعد للحكومة صوت أو أمر يستوجب الطاعة إلا في مساحات ضيقة ومحدودة، وأصبح الصوت الأعلى هو صوت الرصاص الذي يفر من أمام مطلقيه الجميع شرقاً وشمالاً.
كل هذه المعلومات المتدفقة من الجنوب إلى الشمال، تؤكد على أن قضية الجيش الشعبي هي الأقوى، خاصة تلك (القوات الخاصة) التابعة لرئيس هيئة الأركان اللواء “بول ملونق” والتي يمكن تصنيفها وفق التعريفات العسكرية ضمن (المليشيات الخاصة) الداعمة للجيش الشعبي، لأن منسوبي تلك القوات يدينون بالولاء الشخصي للواء “ملونق” لا إلى الرئيس أو الدولة، وأن أي قارئ حصيف لما يجري في دولة الجنوب سيصل إلى حتمية المواجهة بين الرئيس وبين رئيس هيئة الأركان المحمي والمسنود بمجلس أعيان الدينكا، بحيث تكون النهاية هي استيلاء الأخير على السلطة.
أما عن دور مصر في الذي يحدث، فإن الرئيس “سلفا كير” يرى أهمية التحالف مع داعمين يقدمون له العون العسكري والفني في مواجهته لمعارضة مسلحة شرسة وليس أقرب له من مصر وفق رؤيته العامة، لأن موقف الخرطوم من نظام الحكم في “جوبا” هو موقف تتحرك فيه ظلال كثيفة وداكنة من عدم الثقة لموقف “جوبا” الداعم للحركات المسلحة المناوئة لنظام الحكم في “الخرطوم”، ولمساندتها غير المخفية للجيش الشعبي شمال والحركة الشعبية قطاع الشمال في مواقفهما الحادة والمتشددة ومواجهتهما لحكومة “الخرطوم”.
راجت تقارير نشرتها بعض الوسائط والصحف ووكالات الأنباء على فترات متباعدة بأن “القاهرة” قدمت مساعدات عسكرية أو ذات طابع عسكري إلى “جوبا” تمثلت في عدد من ناقلات الجنود، وعدد من اللنشات والزوارق الحربية الحديثة، مع إبداء القاهرة كامل استعداداتها لإعارة الجيش الشعبي طائرتي نقل عسكريتين للمساعدة في نقل الاحتياجات عند الضرورة، مع تقديم رادارات رصد لم يتم تركيبها حتى الآن على حدود دولة جنوب السودان مع حدود كل من السودان وأثيوبيا، إلى جانب الدعم الطبي المستمر لوزارة الدفاع، وقدره (15) طناً من الأدوية والمحاليل الوريدية شهرياً، وراج أيضاً أن “القاهرة” دعمت “جوبا” بكميات كبيرة من المهمات العسكرية مثل الأحذية والأغطية والناموسيات والمشمعات والخيام وأكثر من ستين ألف لبسة عسكرية كاملة، والاتفاق بين الطرفين على توفير الأحذية العسكرية للجيش الشعبي مقابل تجميع أنواع الجلود من دولة الجنوب لصالح مصانع الأحذية المصرية العسكرية، إضافة إلى التدريب أو الاستيعاب في الكليات العسكرية المصرية.
قطعاً تلك رؤية إستراتيجية للتعاون المشترك بين “جوبا” و”القاهرة”، إذ لكل دولة الحق في البحث عن مصالحها والسعي لحماية تلك المصالح دون أن يضر ذلك  بالآخرين، خاصة وأن مصر تهتم – وهذا حقها – بدولة جنوب السودان منذ وقت بعيد، ضمن مساعيها في المحافظة على نصيبها من مياه النيل، وهو أمر واضح وغير مخفي ولا منكور، لذلك يمكن أن تحرص على الانتشار أو التمدد في المنطقة، خاصة بعد أن أصبح سد النهضة الأثيوبي حقيقة واقعة على الحدود بين السودان وأثيوبيا التي تنحدر من مرتفعاتها وأراضيها مياه النيل الأزرق التي تشكل أكثر من (80%) من مياه النيل.
هذا الأمر يبدو كأنما ليست له علاقة بما يحدث من صراعات على السلطة في دولة جنوب السودان، لكنه أصل وأس المشكلة والصراع، فالرئيس “سلفا كير ميارديت” يرى أن من حقه الاستعانة بمن يريد من أجل تثبيت وتوطيد أركان حكمه، بينما يرى رئيس هيئة أركان الجيش الشعبي والرجل القوي اللواء “ملونق” إنه ليس من المفيد في ظل ما تشهده الدولة الوليدة الضعيفة من صراعات على السلطة أوشكت أن تتحول إلى حرب أهلية، الدخول في دوائر الصراعات الإقليمية، والنأي بالجيش الشعبي عن أي مواجهات محتملة مع الجيش السوداني، بسبب الدعم غير المحدود الذي تقدمه “جوبا” لقادة الحركات المسلحة وللحركة الشعبية قطاع الشمال على وجه التحديد.
انفجرت الأوضاع الآن لكنها لن تهدأ، وقد تمتد آثارها إلى اعتماد برامج التصفية الجسدية كواحدة من وسائل التخلص من إزعاج الخصوم، لكن لا أحد يستطيع الآن التكهن بمسار الرصاصة القادمة.. وأي رأس تصيب!
اللهم أحفظنا وأحفظ بلادنا وقنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وهب لنا من لدنك رحمة وأغفر لنا وأعفُ عنا إنك سميع مجيب.
آمين.. و.. جمعة مباركة

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية