كراع جادين!!
التجانى حاج موسى
أها!! وبعدين.. بعدين، كراع جادين!! ما عارف أنا بالجد جادين ده منو؟ لكنها عبارة متداولة منذ قديم الزمان سمعناها ونحن أطفال ورددناها كما هو مكتوب أعلاه.. والعبارة زيها كثير في معجم مفرداتنا الشعبية مع ملاحظة أن كلمة بعدين وجادين من جنس قافية تنتهي بحروف الدال والياء والنون، لكن تظل كراع جادين لغز يحيِّرني.. وهكذا يتداول الناس منذ معرفتهم للغات أمثال وكلام وعبارات مجهولة الراوي ومجهولة الزمن الذي نشأت فيه.. لكن لماذا تموت مثل تلك العبارة المبهمة، وكيف استمدت عناصر بقاءها؟! هل لأن العبارة جاءت مسجوعة وذات جرس موسيقي، ولذا بقيت على قيد الحياة؟! ونقول (كشا مشا.. عزموا فطور جا عشا) .. وهذه مفهومة المعنى وحتعيش كمان وكمان طالما هنالك من يتأخر عن الميعاد المضروب له.. والعبارة تسعف من يستخدمها في مواجهة المستخدمة ضده.. وتحمل العبارة في أحشائها الظُرف واللطافة، فهي عتاب رقيق مموسق.. وهنالك العديد من الأمثال الشعبية التي تجري على ألسنة الناس ولا نستطيع معرفة تاريخ نشأتها عدا تلك التي وردت في حقبة من الزمان تضمنها المثل.. ونجد أن الحكمة والموعظة متضمنة في معظم الأمثال الشعبية وبعضها يستشهد به الناس عند حدوث حدث معين.. (جا يكحلا عماها).. وده يصدق على الزول المتشوبر الذي ظن أنه قادم على إصلاح شيء فيفسده.. والأمثال في السودان لها خاصية التنوع، وفي كثير من الأحيان تحمل مسميات جغرافية المنطقة وعاداتها وتقاليدها وموروثاتها الطقسية والعقدية.. شنقلي ليَّ طوباية تلقي لي دهباية.. “الفُونتك” يعني لمن تنطق المثل، تعرف أنه جاء من غرب السودان وإن كنت ملم بألسنة أهلنا بالغرب ستدرك أن المثل ينتمي إلى قبيلة بعينها.. وهنالك أمثال تتخطى الحدود الجغرافية، “فمثلاً القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود”.. وده مثل له علاقة بالاقتصاد ويدعو للتوفير وعدم تبديد المال بغير مقتضى.. يعني أن لا يكون الإنسان سفيهاً يعني الذي يصرف ماله بغير مقتضى.. لكن عندي تحفظ على مقولة (الشكرو قدامو نبذوه)، لأن الأنسب أن نثني على من فعل الخير علناً له.. ففي ذلك إقرار باستحقاقه الثناء وهذا حافز أدبي عظيم يحرِّضه على فعل الخير للناس.. أما مقولة “يوم شكرك ما يجي” أيضاً هذه مقولة فيها إنَّ، لأن يوم الشكر هنا تعني الموت، والثناء على الميت بعد موته في ظني لا فائدة منه، لكن عبارة (اذكروا محاسن موتاكم) مقولة جيدة وحبذا لوا استخدمناها في حالة تذكرنا الميت، ونلقي بها إذا بدر من أحدهم ذكر الميت بسيئات أفعاله، وقطعاً هذه عبارة منبعها التربية الدينية.. وعبارة (ود الفار حفار) معبِّرة جداً ولا تحتاج إلى شرح.. وفيها جناس مظبوط لتوافق الحروف الثلاث الأخيرة في الكلمتين الفاء والألف والراء.. يعني المقولة مموسقة، لذا يسهل تداولها، لأنها ملحنة، وهذا ما جعل الأشعار باقية لاسيما الجيِّد المعاني، وصدق عالم اللغة الفراهيدي الخليل بن أحمد” حينما عرَّف الشعر بأنه هو الكلام المقفى الموزون ذو المعاني، لذا لا زال “أحمد أبو الطيب المتنبي” أشعر العرب – رغم رحيله منذ مئات السنين عائش بيننا نطرب لأشعاره ونحفظها عن ظهر قلب، لأنها نبعت من عبقرية شعرية فطرية فذة، اقرأ معي هذا البيت.. يا أعدل الناس إلا في معاملتي..
منك الخصام، وأنت الخصم والحكم.
أُعيذها نظرات منك صادقة.. أن تحسب الشحم في من شحمه ورم!! يا سلام!!
يا ريت أولادنا وبناتنا من يقرضون الشعر أن يقرأوا ديوانه ويحفظوا أشعاره، لأن في ذلك إثراء لتجربتهم الشعرية والنظر في الكيفية التي يبني بها معمار أبياته الشعرية بمعمارها الأنيق الشكل والمضمون.. طبعاً في أمثال وأقوال كثيرة وأشعار لا أستطيع تناولها لمعاني مفرداتها التي لا تخلو من بذاءة، لكن حتى تلك لا تخلو من عظة وحكمة، وصلت إلينا مثلما نروي في مجالسنا الخاصة نكات وطُرف لا نجرؤ على الإفصاح عنها علناً.. وأظن أن هنالك دراسات مستفيضة أجروها على علماء أفذاذ في هذا الشأن أذكر على سبيل المثال أستاذ بروفيسور “عون الشريف قاسم” يرحمه الله رحمة واسعة، وأستاذي بروفيسور “يوسف فضل” أطال الله عمره… وتعتريني هزَّة الفرح بلا غرور.. وأنا أقرأ بعض من أبيات أغنياتي مكتوبة على السيارات.. مثلاً قرأت (ليه كل العذاب.. ليه كل الألم) مكتوبة في لوري تراب قديم.. وأمي الله يسلمك) وهذه مكتوبة في عربات، وكثير من الأمثال وأبيات الأشعار الجميلة، وعلمت أن أطروحات علمية أجيزت في هذا الموضوع لكن لسه ما عرفت.. بعدين!! كراع جادين.