أخبار

خربشات (الجمعة)

(1)
جلس “كوكو المنديل” في المقعد الأمامي للسيارة الأتوس.. بعد قراره بمغادرة كادقلي قبل زفاف ابن أخيه اليوم.. ورفض بإصرار الانتظار حتى المساء. أشعل سيجارته البرنجي وأخذ نفساً عميقاً وأخذ يدندن في نشوة رغم الخوف من القادم مع صوت الفنان الذي يقلد أغنيات غيره من كبار المطربين مع نشاط الرياح الجنوبية الغربية المشبعة بالبرودة.. ورائحة التراب وتناثر السحاب في السماء الصافية.. كان المغني يصدح:
أرجوك يا نسيم روح ليه
بي أشواقي صرح ليه
وأذكر صبوتي وسهادي
والكمساري “الجاك” قد بح صوته وهو ينادي : يلا يا ناس.. سواق حريف وأتوس نظيف.. أرح جاي.. المسافرين طروجي . الريكة بلد التمليكة.. التيس البرام.. أم سردبة.. أنقولو. يلا يا مسافرين نحن ماشين.. وتذكر “كوكو المنديل” ضرورة شراء بعض الاحتياجات.. تمباك.. عطور..ملح باكو سيجار.. وضع حقيبته في المقعد وذهب للسوق لشراء احتياجاته.. عند العودة وجد شخصاً يجلس على المقعد الأمامي…:” لو سمحت يا زول مقعد بتاع أنا”.. رد عليه الشاب بغطرسة وازدراء: “مقعد بتاعك كيف؟.. أجلس هناك ما عاوزين كلام عرب كثير”.. يا زول ما تجيب كلام بتاع سياسة، تقعد في مقعد بتاع أنا ،وتقول لي أنت  مؤتمر وطني.. وليه “أحمد هارون” بتاع جلابة دا يقعد في مقعد بتاع كمرت “عبد العزيز”.. يا ولدي أنا “كوكو منديل” ، تعرف ولدي “خميس كومرت” كبير في الجيش الشعبي.. اعتذر الشاب.. وأخلى المقعد الأمامي. وعاد السائق يردد على مسامع الركاب الأربعة هذه الرحلة الأخيرة ،وننتظر الفرحة اليوم!! أدرك “كوكو المنديل” ….. أن كادقلي مقبلة بعد ساعات على أحداث قد تبدل واقع المنطقة إلى شيء آخر.. ولكنه تجاهل ما سمعه ليلة البارحة،  وهاتف ابنه المغترب في دولة الإمارات العربية :يا “محمد” كيف أنت؟؟ نحن كويسين لكن المصاريف انتهت. و”سعدية” عيانة في الخرطوم .وعمك “عطرون” قبضوه (المتمردين) في دارفور بجبل مرة.
(2)
صدرت توجيهات بجمع أجهزة الهاتف السيار من كل العساكر دون رتبة العقيد.. فوراً من كل المحطات وتزويد الضباط من رتبة العقيد ، وما فوق بهواتف جديدة غير مزودة بخدمة (الواتساب) ، ولا كاميرات التصوير.. الهواتف الجديدة جميعها تم ربطها بهواتف خاصة ، بقادة الجيش الشعبي.. وتم تغيير طاقم حراسات القائد “الحلو” بعناصر من استخبارات الجيش الشعبي،  في كاودا.. طلب “الحلو” في ذلك المساء حضور ضابط اتصالات بمطار كادقلي الحضور بعد الساعة الثانية عشر ليلاً.. “معتز” ضابط اتصالات المطار، يتبع لهيئة الطيران المدني من أبناء مدينة الدلنج، لكنه ولد ودرس كل مراحل تعليمه بالخرطوم.. قبل أن يسمح له بلقاء القائد تم تجريده من هاتفه وساعة اليد والحزام . و”معتز” يمثل فاكهة المطار بسخريته وتعليقاته، قال لحراس الجنرال “الحلو”.. ليه أنا راكب طائرة ولا أصبح نائب الوالي خائفاً من الموت.
جلس “معتز” أمام “الحلو” الذي يرتدي بنطالاً أسود وتي شيرت أبيض وأمامه كوب ماء ونبق وقنقليس ودوم.. نظر لـ”معتز” في عينه.. وتلك من الدروس التي تعلمها في مدرسة استخبارات الجيش الشعبي في كيفية اختبار المصدر أو الشخص المستهدف بالتجنيد.. تحدث “الحلو” عن تاريخ المنطقة ونضالات قادتها.. وأسهب في الحديث عن ضرورة أن تنال جبال النوبة حريتها في الانضمام إلى الجنوب أو البقاء في دولة الشمال أو الاستقلال الذاتي.. وعبر عن خيبة أمله في الانتخابات التي جرت أخيراً.. مما يتطلب القيام بدور هام في الأيام القادمة.
“معتز” لم يسبق له التدريب عسكرياً ولا تشكل السياسة جزءاً من اهتماماته فهو يحب الرياضة ويشجع المريخ العاصمي وبرشلونة الأسباني وليفربول الإنجليزي وبايرن ميونخ الألماني وروما الإيطالي. وجميع هذه الأندية شعارها أقرب للمريخ من الغريم الهلال.
تعثرت الكلمات ورفضت أن تبوح بما في النفس ،لكنه قال يا سعادتك ما هو المطلوب؟؟ هنا شعر “الحلو” بأن “معتز” أصبح قريباً منه.. ومن السهل تجنيده لصالح خطة احتلال المدينة التي يمثل المطار أهم أركان الخطة.. بالتحكم في الهبوط والطيران.. وقد فشلت الحركة الشعبية في تجنيد مدير المطار وضباط الأمن المسؤولين عن الملاحة الجوية.. ولكنها أخيراً عثرت على القطعة الذهبية التي تبحث عنها.. والمفتاح الذي تستخدمه لإغلاق مطار المدينة لحظة تنفيذ خطة الاستيلاء على كادقلي،  فتح المطار لهبوط طائرة تأتي من “جوبا”.. وأخرى من “نيروبي” في لحظة تحددها القيادة العسكرية.
(3)
اختارت “تهاني” أو اختير لها ملابسها لساعة الزفاف.. وجاءت شادية بفستان أبيض يعرف بفستان العروس من الأبيض.. وفي منتصف النهار رن هاتف العريس.. “حماد”.. “تهاني”.. “تهاني”.. اسمعيني في طريقة نشوفك الآن.. “تهاني” لـ”حماد” في شنو يا “حبيبي خلاص لم تبقَ إلا ساعات ونحقق أحلام العمر.. ونبني عشنا الذي حلمنا به وستجدني بجوارك.. أصبر شوية.. يا “حماد” الآن الرجال يستعدون لعقد القران.. حتى المأذون “أبكر” تم الاتفاق معه للحضور قبل صلاة المغرب.. “حماد” أنا يا “تهاني” خايف.
“تهاني” في شنو مالك؟؟
“حماد” خايف من اليوم ده؟؟
“تهاني” دا اليوم الذي نحقق فيه أحلامنا وأمنياتنا.
قبل أن يضع “حماد” الهاتف قالها بصوت متقطع.. خايف.. من الخوف.
طلبت “تهاني” من ابنة خالتها.. كوب ليمون بعد شعورها بالراحة.. ونعمة الصحة وتجاوز المرض المفاجئ الذي تسبب في ذهابها المستشفى.. وضعت كوب الليمون على التربيزة التي أمامها.. ومدت بصرها بعيداً.. وهي تعيد كلمات “حماد”.. الذي بدا ضعيفاً أمامها لأول مرة.. ولكن الفتيات الصغار أخذن يضربن على الدلوكة.. ويتغنين بأغنية (الربة) ، وهي رقصة تشارك الفتيات الصبا.. والجميع رددن أغنية عن شاب سرق دكانا ،وحينما داهمته الشرطة هرب  وترك حذاءه.
الولد دا سرق الدكان
نسى (الدبابة)، أي الحذاء، وطلع القيزان
وبقى برينسة ،(نوع من العربات الصغيرة)،
وسبق النيسان..
كانت عربة استخبارات الجيش الشعبي تقف أمام منزل “حماد” وقد صدرت التوجيهات من القيادة العسكرية بحضوره فوراً لرئاسة الجيش الشعبي بعد أن سلمه الضابط ملابس عسكرية وملابس مدنية، في شنطة كبيرة وضعت بداخلها كميات من البلح والمعلبات.. وأقراص الأدوية.. أدرك “حماد” أن عليه التوجه لتنفيذ عملية عسكرية ، بدلاً من قضاء ليلته الأولى في أحضان “تهاني”،  التي تفصله عنها ثلاث ساعات فقط.

                                                                                                                                                                                           

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية