خربشات (الجمعة)
{شعرت “تهاني” بإعياء شديد.. ورفضت تناول وجبة الإفطار وارتفعت درجة حرارة جسدها.. وفي منتصف النهار قبل حلول المساء حيث تقرر عقد قرانها بعد صلاة المغرب بمسجد الهجرة الذي يمثل معقل الإسلاميين في مدينة كادوقلي قبل أن يهجرونه مع وصولهم السلطة في 30 يونيو 1989م، مع أن والد العروس الصول يباهي بانتمائه العريق للشرطة ولا يخفي تشجيعه للمؤتمر الوطني الذي لم يمنعه من الموافقة على زواج ابنته لأحد منسوبي الحركة الشعبية من قبيلة النوبة المورو.. وتم نقل “تهاني العروس” لمستشفى كادقلي للاطمئنان على صحتها قبل عقد القران بساعات.. وسرت وسط نساء الحي همهمات وهمسات.. لا عن المرض المفاجئ الذي أصاب العروس ولكن جارتها “صفية”.. أخذت تردد بصوت خافت قصصاً.. وعن فتيات فشلن في يوم الزواج الأول.. قالت “صفية” وهي تصطك ما تبقى من أسنانها.. والله بنات الزمن ما ينقدرن.. في السنة الماضية تم طلاق حسنة البرقاوية في يوم الزواج بعد أن اكتشف العريس بحملها في الشهر الخامس.. وقالوا ليك واحدة تزوجت ووضعت جنينها بعد أسبوع، لكن الراجل رفض طلاقها.. ومضت “صفية” تروي قصصاً عن طالبات الجامعة.. واستخدام الطلاب للواقي الذكري، ولكن “محاسن” ردعتها بكلمة نفذت لعقلها الباطن وهي تقول يا “صفية” الدرب بجيب والفتاة بتعيب، أمسكي لسانك.. “تهاني” بت أصول.. قالت “صفية” (بري بري) أنا ما قلت فيها حاجة كيفن أقول في بت حشاي يا “محاسن”.
وضع الطبيب السماعة على صدر “تهاني” نصف العاري.. وقد تغيرت رائحة المكان وأصبحت مثل غرفة زوجة.. أو امرأة تعرف كيف تستميل قلب زوجها وعشيق روحها.. شعر الطبيب بقشعريرة سرت في جسده.. وجذبته نعومة الجسد المسجي أمامه.. قرأ بتمعن نتائج الفحص للبول والفسحة والدم الأبيض.. وجذب ورقة وكتب وصفة علاجية.
قالت “ابتسام”.. يا دكتور طمئنا.. العروس كويسة.. أوب علي يا دكتور الليلة عرسها.. عندها شنو.. ابتسم طبيب الامتياز الذي يؤدي ضريبة الخدمة الوطنية ووجه حديثه لابتسام التي نظرت لوجه الطبيب وإضاءة الابتسامة (فلجة) أسنانها البيضاء أنها تعاني من نقص شديد في مادة البوتاسيوم ولعلاج نقص البوتاسيوم يجب تناول قطعتين من الموز.. وأن لا تجهد نفسها.. وكل الفحوصات سليمة.
قالت “ابتسام”.. لكن الزواج اليوم.. الطبيب.. مالها.. حالتها جيدة.. لكن السماء ملبدة بالغيوم.. وقد ترعد وتمطر كادقلي اليوم.
يا دكتور وينو السحاب ما في أمطار هذه الأيام؟؟ الطبيب.. لا… أعني المناخ العام وحالة التشاحن بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.
يا دكتور العريس ذاتو من الحركة الشعبية يعني وراء مؤمن قالتها بلهجة عسكرية وانصرفت عن الطبيب الذي نظر لخصلات شعرها التي أخذت تداعب صدرها نصف العاري.
(2)
{رن هاتف “محمود” أكثر من مرة.. ولم ينهض الرجل من سريره نظر للهاتف الذي يسمى “ربيكا” ووضع الهاتف في الطاولة التي أمامه.. وأخذ يحرك قدميه وهو مستلقي على سريره من أثر سهرة البارحة مع فريق البرسا الذي لعب مباراة تاريخية في مواجهة كبير الإنجليز شلسي وحصل على بطولة دوري الأبطال.. عاود الهاتف الرنين.. منو معاي.
أنا “حمزة” سائق الدفار.. اتصلت علي قبل شوية البضاعة وصلت الدلنج لكن تم حجزنا في النقطة لأسباب أمنية.. وطالبنا منسوبو الاستخبارات بأوراق البضاعة.. وأوراق العربية والرخصة.. وتم أخذ بطاقتي ولم يتم الإفراج عنا حتى اللحظة.
لا يا “محمود” لكن عربات كثيرة تم حجزها.. وشاهدت رتلاً من السيارات العسكرية متوجهة إلى كادقلي.. والآن تمر أمامي ناقلات الدبابات.. ومدافع وراجمات في شنو في كادقلي يا “محمود”.
يا “حمزة” ما في حاجة الوضع طبيعي.. والآن سمعت خبراً في إذاعة كادقلي يقول إن وفداً من الخرطوم يضم كبار المسؤولين في الحكومة ومن حزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في طريقهما إلى هنا.. لإعادة “عبد العزيز الحلو” نائب الوالي ورئيس الحركة الشعبية الذي اختفى منذ يومين ويقولون إنه بمنطقة (تافيرا) غرب كادقلي ومعه كل القيادة العسكرية للحركة، طيب يا “محمود” إذا الوضع غير مستقر نعود إلى الأبيض ونسلم البضاعة إلى الإخوان “سعيد” و”موسى” بدلاً من المجازفة.
لا يا حمزة” الدقيق بسيط جداً في المدينة.. أمبارح كل الدقيق الموجود في المخزن اشتراه “عثمان بدوي” واشترى دقيق أولاد “عبيد”.. وكل السكر في السوق. “حمزة”.. “عثمان بدوي” يشتري بي شنو زول موظف علاقات عامة وما عندو غير عربيتو الأتوس.. أنت يا “محمود” ما عارف “عثمان بدوي” ده بقى كمرت كبير في الحركة الشعبية.
“حمزة” ما تتكلم في السياسة تعال حصل السوق فاضي دايرين الدقيق والرز والسكر.. البلد دي فيها استهلاك شديد.. وناس الجيش بشتروا الدقيق وكذلك ناس الحركة تشوين المحطات الخارجية.. يا أخي دي فرصة ما تضيع لينا الفرصة دي.. بيع الدقيق بأي سعر نحن عاونه ونجيب دقيق تاني من الأبيض.
(3)
{أشعل “كوكو المنديل” سيجارته قبل تناول شاي الصباح.. وجلس أمام منزل العريس “حماد” الذي يزف مساء اليوم إلى عروسته “تهاني” أخذ ينفث دخان السجائر وينظر إلى شجرة العرديب التي أزهرت وأخذت أوراقها اللون الأحمر.. وليلة البارحة وسوس شيطان السفر في أذن “كوكو المنديل”.. وأصابه الأرق والسهر حتى الساعات الأولى من الصباح.. همست المدينة عن أحداث يشهدها مساء ذلك اليوم.. في جلسته أمام المنزل يتأمل في مستقبل وجوده بكادقلي.. وقد لاحت في الأفق مقدمات عودة الحرب مرة أخرى.. تسلل صوت مغني يحبه “كوكو المنديل” كثيراً.. وكان في زمانٍ مضى يبعث عن طريق البوستة برسائل لبرنامج ما يطلبه المستمعون من أجل أغنيات لـ”وردي” و”عثمان حسين” في تلك اللحظة كان صوت المغني يتسلل لقلب “كوكو المنديل” الذي أخذ يفكر في الهروب من جحيم ينتظر المدينة قبل أن تكتمل مراسم زواج العريس:
لحن الحياة منك ما تقول نسينا الماضي
وصرنا ناسينك محبوبي الجميل
سألوني مين أنت عرفتهم
أيه الصفات عنك خبرتهم
شافوا الجمال منك أقنعتهم
سقط ما تبقى من السيجارة ونهض “كوكو منديل” مسرعاً نحو موقف المواصلات في رحلة الهروب من القادم الذي كان يخيم على مناخات المدينة حيث اختلطت رائحة الدم بدعاش الخريف كما خيل لـ”كوكو المنديل”.