أخبار

خربشات (الجمعة)

تعطَّر منزل العريس “حماد” بعبق الزواج والروائح التي تبعث في الروح الفرح والنشوة.. وتجمع شتات الأسرة بعضهم قادم من الأراضي التي كانت تسمى محررة، أي التي تسيطر عليها الحركة الشعبية، وبعضهم جاء من ود مدني عاصمة الجزيرة، وآخرون من بورتسودان والخرطوم وشندي.. وهكذا في السودان تجمع الأفراح، وكذلك الأتراح شمل الأسر.. واتخذ سكان حي “كلمو” الواقع غرب المدينة من بيت العرس (تكية) يتناولون الوجبات الثلاث.. والشاي يقدم طوال اليوم.. والقهوة.. وتشبعت أرواح الشباب من الفرح والسهر اليومي، أما على أنغام الدلوكة أو المطربين.. أو بالرقص التقليدي للنوبة الذين حافظوا على موروثهم في الغناء والرقص رغم ما تعرضوا له من عنت وشقاء وحرب وتشرد في المدن السودانية وحتى خارج حدود الوطن، وأضفى “كوكو المنديل” القادم من أم سردبة مناخاً من البهجة.. بدعابته الحاضرة.. وسخريته حتى من نفسه.. في ذلك الصباح أخذ “كوكو المنديل” يسأل “موسى رحمة” عن المرأة التي تبكي طوال يوم أمس، وتصرخ بصوت عالٍ يـا”المكاشفي” أفزعني وألحقني.. ولم يهب أي من أهل الحي لنجدتها.. حيث هرول “كوكو المنديل” وحده نحو المنزل المهجور الذي تصرخ منه المرأة في وجه رجل يصدر صوتاً غريباً. فقال: “موسى رحمة”.. هي “أم سر الشنبلية” وهي تصرخ كلما ضربها زوجها “حامد” بعصاه.. ليلاً والخمر تلعب برأسه ويصبح إنساناً آخر.. يضرب ويصرخ مثل الطفل الصغير.. ورغم ذلك زوجته “أم سر” ترفض الطلاق منه.. وتعيش واقعها تحت سياط العنج والضرب غير الإنساني وهي مقتنعة بزوجها.. فسأل “كوكو منديل” ليه الزول الأسمو “المكاشفي” ده ما بجي يفض الاشتباك بين المرأة وزوجها.
قال “موسى رحمة” ضاحكاً: يا “كوكو” “المكاشفي” ده ما موجود هو من أولياء الله الصالحين ومن كبار الصوفية في الدنيا.. “كوكو منديل”: يعني : ما جارهم في الحي؟!
“موسى رحمة”: لا هو من أولياء الله الصالحين توفي من زمان بعيد.. “كوكو منديل”: طيب المرأة ليه بتنادي زول ميت؟.
“موسى رحمة”: الأولياء والصالحون لهم قدرات خارقة ويسمعون دعاء المظلوم.
“كوكو منديل”: يا زول ما تكلم كده هو زول مات بسمع كلام زول حي كيف؟
“موسى رحمة”: أنت لا تفهم شيئاً في الصوفية والإيمان والإسلام.
“كوكو منديل”: يا أخي أنا مسلم بصلي وبصوم.. وما بأكل حق الناس ولا بكتل زول.. ولا حرامي، ومؤمن بالله ورسوله تقول لي كلام ذي دا؟
“موسى رحمة”: ما أنت بتشرب السيجار وبتسف التمباك، ومن يتعاطى الحرام حتماً من العصاة الذين مصيرهم النار.
“كوكو منديل”: أنا ما بكتل مسلم ولا مسيحي.. وما بأكل حق الناس ولا بسوي شغل كعب.. ما بسرق مال غيري.. بصوم رمضان وبصلي الأوقات الخمسة.. وعندي ثقة في ربنا أن التمباك والسيجار ربنا بغفروا لي يوم القيامة ،يا أخي “موسى”، الله غفور ورحيم وحليم، والله، أنا ثقتي في الله أكبر من ثقة الناس العاملين فيها شيوخ ديل.. يا أخي زول دقنو كبيرة وعربيتو نظيفة وباردة ومتزوج أربع نسوان لكن بيأكل حق الناس المساكين ويحرِّض على الحروب.. ويفتخر بنسبه وقبيلته مصيرو الجنة ولا النار؟
أنت بتفتكر أي زول جاي من مناطق الحركة الشعبية كافر وملحد ومصيروا يدخل النار؟.
(2)
تعالت أصوات النساء والرجال فرحاً بقدوم ثلاث سيارات بكاسي تحملوجبات غذائية من بيت العروس لمنزل عريسها المرتقب “حماد” تُعرف تلك الوجبة بفطور أم العريس.. حرصت النساء على جودة اللحوم.. من دجاج ولحم ماعز.. ولحم بقر.. وكفتة.. وكمونية.. وأشكال وألوان من الحلوى البلدية.. والشعيرية والمعجنات وقليل من أم فتفت.. وكثير من الشية.. والزغاريد والطبول.. والرقص.. إيذاناً بعقد الزواج في مساء يوم 6/6/ ومن ثم الزفاف الذي يشمل قطع (الرهط).. ورقصة العروس وغناء المطرب الذي جاء من الأبيض ليلة أمس، واختلط أهل العروس والعريس.. وكانت “نعمات موسى” التي جاءت من الخرطوم مع صديقتها.. وهي من قرية فداسي بالقرب من ود مدني تنتمي إلى عرب الشكرية في شرق السودان تنظر بإعجاب للفرح الطاغي وسط أهل العريس والعروس ولم تستطع “نعمات” التمييز بين العرب والنوبة، كل السحنات تميل إلى السواد والشعر القرقدي والعيون العسلية وذات الرقصات التي شاهدتها في منزل العريس هي رقصات أهل العروس.. ولا تستطيع التمييز بين من يدعون أنهم عرباً يمتد نسبهم إلى القرشيين والعباسيين.. وبين النوبة الذين ينتسبون إلى الحضارة النوبية العريقة.. وحتى الوشم على الوجوه ذات الشلوخ التي على خد “كاكا” التي تفتخر بأنها من النوبة النمانج، هي ذات شلوخ “خديجة” التي تفتخر بأن جدها هو “أبو عبيدة عامر ابن الجراح”.. وقالت “نعمات موسى”: إن السودانيين جميعاً مغرمين فقط بآل البيت.. والقرشيين.. لماذا لا ينتسب بعضهم إلى الأوس والخزرج وهم من المهاجرين ومن بطون العرب غير القرشيين؟.
عادت العربات التي تحمل فطور أم العريس بعد أن نثر العريس النقود على رؤوس الفتيات في زهو وفخر وتباهٍ.. وكلما نثر المال تعالت الزغاريد.. وهنا.. وقف المطرب الذي غنى يوم أمس، في سهرة الحناء وقدم أغنية (أيامنا) التي تمثل ثمرة لتعاون ثلاثي بين الشاعر “عبد المنعم عبد الحي” والموسيقار “برعي محمد دفع الله” والمطرب “عثمان الشفيع”.. لكن الأغنية أصبحت ملكاً للعامة يرددها المطربون في الحفلات العامة والخاصة، وكادت شجرة التبلدي التي تتوسط منزل “حماد” أن تصفق بأعضائها مع نشوة الجمع الغفير والمطرب يردد والناس كأنهم سكارى بفنه الرائع..
يالنسيت أيامنا أيامنا
حققنا فيها غرامنا
أيامنا في الفؤاد ذكراها
حبي كيف ننساها
أيامنا وما بنحن لسواها
وعندما يقول المطرب أيامنا تمتزج أصوات النساء بالرجال والصغار بالكبار والكل فرح بالزواج، لم تبق إلا ساعات ويجمع شمل قلبين وحَّدهما الحب والغرام.. ولكن بعيداً عن منزل العريس والعروس كانت كادقلي قد نعق طائر الشؤم ليلة أمس، في كل أشجار السوق الكبير، وقد احتشدت في الأسواق.. مظاهر العسكرة.. وألغى المؤتمر الوطني احتفالية كان يعتزم قيامها بإستاد المدينة تخاطبها قيادات قادمة من الخرطوم بعد أن تكشفت نوايا شريكه في السلطة.. بالخروج على اتفاق السلام، ولاحت في الأفق بوادر حرب داخل مدينة كادقلي في ذلك اليوم الطويل جداً على العريس “حماد” وهو ينتظر زفافه في المساء والقصير جداً لوفد التفاوض الذي فشل في إقناع “عبد العزيز الحلو” بالعودة لمنزله داخل كادقلي، وقد اتخذ له مكاناً قصياً غرب المدينة تأهباً لشيء ما، يحدث في يوم 6/6/ قبل زواج “حماد” أو بعده.. ذلك هو ما عجزت عن تفسيره “حليمة” ضاربة الرمل وقارئة الكف.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية