الشعبي والحريات
سعى حزب المؤتمر الشعبي من خلال مؤتمر الحوار الوطني لإرساء قاعدة حريات صلبة لتأمين ديمومة التنافس السياسي ونظافة الملعب من الحفر ومعيقات الأداء، وأفلح في تضمين بنود مهمة في وثيقة الحوار الوطني عن الحريات.. إلا أن بعض النصوص التي دفع بها المؤتمرون قد وجدت معارضة ونقداً من القوى السياسية الشريكة في الحوار الوطني، ومن بين تلك القوى المؤتمر الوطني.. وأبرز نقاط الاختلاف تمثلت في تجريد جهاز الأمن الوطني من سلطاته الحالية وإحالته ليصبح مؤسسة معنية فقط بجمع المعلومات وتقديمها لجهات أخرى في الدولة.. وفي ذلك مثالية تفارق واقع الممارسة وتهدد الديمقراطية التي يسعى الجميع لتوطينها في البلاد بالزوال، ويفتح مثل هذا الإجراء (المثالي) أبواب الانقلاب على الشرعية الحالية أو الشرعية القادمة.. والمؤتمر الشعبي سعى كحزب للوصول لأهدافه وتنفيذ رؤيته، لكنه بالطبع لا يملك حقاً مقدساً بفرض رؤيته على الآخرين من شركاء الحوار الوطني حتى لو وقعوا على الوثيقة بالأمس ونكصوا عنها اليوم، فالشعبي قد التزم بما عاهد عليه قواعده.. وتمسك بموقفه حتى ذهبت التعديلات للبرلمان الذي يمثل المشروعية الانتخابية، فإذا رفضت بعض بنود التعديلات، فلا ينبغي للشعبي أن ينسحب من التزاماته التي أبرمها مع الآخرين، ولكن من حقه توضيح موقفه والثبات عليه ودخول الانتخابات القادمة وفق برنامج يتضمن تعديل الدستور والقوانين وإنفاذ ما لم ينفذ من توصيات الحوار الوطني، ويترك للشعب السوداني الخيار أن يصوت له أو لغيره.. تلك هي قواعد الديمقراطية والانتخابات لم يتبق عليها إلا عامان فقط، وهي فترة قصيرة جداً ولمحة من تاريخ الأمم والشعوب، والمؤتمر الوطني قد بدأ منذ هذا العام الإعداد والترتيب للفوز بها، فلماذا يبدد الشعبي طاقته ويهدر كثيراً من الوقت في قضية جدلية فلسفية هي مسؤولية كل القوى السياسية وليس المؤتمر الشعبي وحده!!
إصرار الشعبي على تجريد جهاز الأمن الوطني من صلاحياته وإحالته ليصبح جهازاً لجمع المعلومات وضعه في مواجهة مع قطاعات عريضة من القوى السياسية، باعتبار أن الأوضاع التي تعيشها البلاد حالياً من حروب في الأطراف، وصراعات قبلية وعرقية، وتهديد أمن البلاد من دول تجاورها شمالاً وجنوباً.. تقتضي هذه الأوضاع تعزيز دور المؤسسات العسكرية ودعمها وليس تجريدها من السلاح وإضعافها.. والمؤتمر الشعبي تجاوزت قيادته كل المرارات الشخصية، وعفا الشيخ “الترابي” عن الأذى الذي لحق به من سجن وتشريد وحرمان من الحرية.. ومضى الشيخ “السنوسي” على درب الراحل تسامياً على الجراح، وعفواً عن الأرواح التي ذهبت ضحية للصراعات بين الإسلاميين، واليوم يخطو د.”علي الحاج” على درب السلف من قادة الحزب.. لذا لا ينبغي للشعبي سجن نفسه في حيز ضيق جداً اسمه الحريات مع أن الحريات المنصوص عليها في الدستور إذا تم تطبيقها والتزمت أجهزة الدولة جميعاً بالخضوع للدستور فلا حاجة لتعديلات دستورية جديدة.
وقد اتفقت كل القوى السياسية، بما فيها التي تحمل السلاح، بأن دستور 2005م من أفضل الدساتير التي حكمت البلاد منذ 1956م.. لذلك فالشعبي مطالب بأن يمضي في تنفيذ مخرجات الحوار والنظر لكل الكوب بدلاً عن نصفه الفارغ.. والرهان على الانتخابات القادمة ليقول الشعب السوداني كلمته في برنامجه الذي يتضمن ما لم يتم تنفيذه في وثيقة الحوار التي نفذ منها حتى اليوم الكثير وتبقى القليل.