دنيا دبنقا
كلما غادرت الخرطوم إلى مدن غرب السودان تحديداً، تجد في مجالس الأنس والأفراح والأتراح حديثاً جهيراً وهمساً عما بثته إذاعة “دبنقا” في ذلك اليوم.. أو أمس القريب. بعض الناس يظنون في الصحافي ظنوناً حسنة بأنه على كل شيء عليم، يسألون عن صحة خبر بثته “دبنقا”.. وكثيراً ما يقف المرء حائراً في الرد على بعض الأسئلة.. ولكن الأثر البالغ لهذه الإذاعة على أهل الريف تحديداً، هو ربما جعل وزير الإعلام السابق “عبد الله مسار” يقول، زوجته في المنزل لا تعطي أذنها للإذاعة التي يشرف عليها زوجها، وتبحث عن شيء ما، في إذاعة، جغرافيا، تقع في حيز بعيد جداً من الكرة الأرضية.. (هولندا) بلاد المنخفضات والحليب والزهور، ولم يمنع البعد الجغرافي الإذاعة التي يقوم على إدارتها ثلاثة من الصحافيين الذين تعلموا المهنة في أحضان نظام الإنقاذ الحالي، وكانوا من مؤيديه، لكنهم انقلبوا عليه أو أنقلب عليهم، غير مهم.. ولكنهم جعلوا من إذاعة “دبنقا” قريبة من المواطنين، تفتح هواتفها إلى الناس العاديين من الضعين والفاشر وشنقل طوباية وأم بدة.. والسلمة.. ولا تأبه كثيراً للمصداقية، وهي تعلم أن القوانين السودانية لا تطالها.. وأجهزة الرقابة لا تستطيع الوصول إليها.. والإذاعات الحكومية لا تستطيع منافستها، لأن إذاعات الحكومة غارقة في دنيا غير دنيا الناس العاديين.. لذلك تواجه الحكومة حرباً إعلامية لا تستطيع بأدواتها الوظيفية الحالية منافستها ولا جذب المستمعين.. والإذاعة لا تزال الجهاز الإعلامي الأول في الريف، ولكن من يقنع إذاعة “أم درمان” نفسها بأنها قد فقدت جمهورها.. وأصبحت تغرد بعيداً عنه.
في الأيام الماضية بدأت إذاعة جديدة هي “بلادي” البث في محاولة لإثبات الوجود.. ومنافسة الإذاعات العديدة التي تنتشر في الفضاء من “دبنقا”.. إلى راديو “تمازج” الذي لا يتخلف كثيراً عن “دبنقا”، كلاهما من صنع المعارضة المسلحة التي تقيم في الخارج.. ولكن هل الإذاعات الداخلية قادرة على سد الفراغ الحالي في الإعلام الوطني، ولَّا أقول الحكومي!! الإجابة بالطبع لا.. بسبب القيود التي تفرض على الإعلام.. والرقابة المباشرة وغير المباشرة.. والوصاية المفروضة على هذه المنابر.. وتفسير كل شيء بتربص، فالإذاعة حينما تبث برنامجاً ينتقد أداء الشرطة مثلاً في قضية بعينها يتم إيقاف البرنامج بهاتف منتصف النهار، وتُبعد إذاعية مثل “ليماء متوكل” من المايكروفون.. وإذا سأل “محمد الأمين دياب” في برنامج “خطوط عريضة” الضيوف من الصحافيين بصراحة شديدة تصدر أوامر إبعاد “دياب” من أعلى السلطات السياسية.. ولذلك يفتقد إعلامنا الوطني للمبادرة.. ويؤثر كل مقدم برنامج ومعده السلامة والحفاظ على الراتب.. ولبن الأولاد وملاح أم رقيقة.. لذلك يلجأ المواطنون للبحث عن المؤشرات عن الإذاعات التي تبث أخباراً بعضها صحيح وبعضها كاذب .. ولكنها خارج دائرة الردع والالتزامات الأخلاقية بقيم المهنة.. وتجد مثل هذه الإذاعات شيوعاً وانتشاراً وسط العامة من الناس ويصدِّقون ما تقوله.. بينما الإذاعات الوطنية لا تصل إلى الأطراف مع أنها تملك القدرة، إلا أنها تظل عاجزة عجز القادرين عن التمام.
إن خبراً عن إطلاق معارضين من لندن لقناتين فضائيتين هما: (المدارية.. والمقرن) يشكِّل إضافة أعباء جديدة لوزارة الإعلام التي ربما لا تفكر إلا في تحصيل رسوم قنوات الرياضة والمنوعات.. وتعوزها رؤية مواجهة السيل المتدفق في الإعلام الحديث من وسائل تواصل اجتماعي فاقدة للمصداقية وقنوات وإذاعات هدفها السيطرة على مخيلة المتلقي في الداخل، لأن أصل الصراع السياسي حول المواطن المسكين الذي هده الفقر والمرض وتلاشي الآمال في مستقبل أفضل.