خربشات الجمعة
وضعت تهاني حقيبة الأحلام والأماني المقبلة بفرح داخل العربة الأتوس التي كانت في استقبالها، وهي عائدة من الخرطوم، ورغم احتجاجات أسرة “حماد” على ترك خطيبته تشتري شنطة زواجها بنفسها، وذلك يعد سابقة في الأسرة والحي والعشيرة، ولكن “حماد” بعناده الشديد رفض الإصغاء لكل النصائح التي أسديت إليه من والدته وشقيقاته اللاتي اعترضن منذ البداية على الزواج من بقارية تعمل في السوق. وبعث “حماد” شقيقته “سميرة” ومعها ابن عمه “رمضان” لاستقبال “تهاني” في الموقف وأخذ الشنطة إلى البيت حتى تتجمع نساء الحي القريبات منهن والجيران للنظر لشنطة العريس، وفقاً للتقاليد والأعراف، مدت “تهاني” حضنها لـ”سميرة” لعناقها، ولكن تفاجأت بجفاف بادئ على سلوك “سميرة” نحوها تعبيراً عن رسالة مبطنة، ولكنها لم تعر جفاف شقيقة “حماد” التفاته، وأمام منزل الصول ترجلت من السيارة الأتوس ودلفت لداخل المنزل لتستقبلها الأسرة بفرح ولهفة خففت عنها جفاف “سميرة” وبرودها، وقبل أن تستلقي على السرير وتخلع البلوزة الرمادية رن جرس الهاتف، وهو عبارة عن مقطع لأغنية شعبية تقول: “عذاب يا حبيبي عذاب مرة بالفيسبوك ومرة بالواتساب”، وسبقت الابتسامة الأنامل الرقيقة لمفتاح الهاتف وقد أطلت صورة من يحبه القلب بملابسه العسكرية ووجه الصارم، وتبادلت معه تعبيرات الشوق والحنين، مع أن تلك المكالمة هي الرابعة في ذلك اليوم منذ تحرك البص من الخرطوم وحتى وصوله كادقلي.
2
في الأسبوع الأول من شهر مايو تتبدل مناخات السودان في الشمال والوسط ترتفع درجات الحرارة وتشوي شمس مايو الحارقة الأجساد، ويصبح الناس أكثر ضجراً في الشوارع والمواصلات العامة، وينتشر في شوارع الخرطوم باعة المياه التي غالباً ما تصبح ملوَّثة بسبب الغبار والأتربة، ولكن في الجزء الجنوبي من البلاد يميل الطقس للبرودة وتهب رياح جنوبية غربية رطبة تنعش الروح وتثير في النفوس الأمل وتهطل الأمطار الصيفية مصحوبة بالبرق والرعد والعواصف شديدة السرعة حاولت تهاني الخروج من بيت والدها بعد مغيب الشمس، وهل تتصيَّد سانحة خروج والصول لصلاة المغرب في المسجد القريب من البيت ثم الجلوس أمام دكان “اسحق آدم” الشهير (بساغة ود طويلة)، حيث تتبادل مجموعته الأخبار التي تبدأ بالسياسة والرياضة وقليل من أخبار الحلة أو الحي التي يهمس البعض بها همساً دون إفصاح، ثم يتجه بعد ذلك لشرب شاي اللبن عند “كلتومة” وبعد صلاة العشاء يهرولون إلى تربيزة الضمنة للهو وتزجية الفراغ العريض، دائماً ما تخرج “تهاني” للقاء “حماد” في الفاصل الزمني بين خروج والدها لأداء صلاة العشاء وعودته من تربيزة الضمنة قبل العاشرة والنصف ليلاً، ولكن مع رهق الرحلة الطويلة هبت نسايم الدعاش الباردة من جهة الجنوب وأخذت الأبقار ترفع رؤوسها تستنشق الهواء العليل، وبعضها يصيح بأعلى صوته والأغنام يرتفع صوت التيوس وهي (تلبلب)، لتغازل الإناث وتراودها بينما الماعز يتمنع في دلال وتتقافز (السخيلات) فرحاً.
تسللت خلسة في ذلك المساء، حيث تتسلل العاشقات من أمثالها في مثل هذا الوقت للقاء من يحبه القلب، والمدينة قد غشاها الدعاش الذي يرطب النفوس قبل الأجساد. تذكرت ليلة أمس، وهي بمنزل عمها بالخرطوم- الشجرة، والمناخ الساخن وانقطاع التيار الكهربائي عن كل المنطقة، وكيف تصبب العرق من جسدها، مما اضطرها حينما اطمأنت لخلود أغلب أهل البيت للنوم أن تخلع جلبابها وتستلقي على السرير شبه عارية، وحينما طرق ابن عمها “إسماعيل” الباب بعنف وهو قادم من حيث يمضي نهاره وليله مع شلة أنسه اضطرت لتغطية جسدها العاري بالملاية بعد أن سقط فستانها على الأرض وأخذ “إسماعيل” يتغنى بصوت متعب من أثر شرب المريسة البلدية.
لو بأيدي كنت طوَّعت الليالي
وكنت ذللت المحال
لو بأيدي كنت غادرت البلد
والمقطع الأخير يأتي به “إسماعيل” ويمزج بين النصوص الغنائية وأمانيه وخلجات نفسه، وقبل أن تقف في المكان المعهود للقاء من يحبه قلبها تفاجأت بابن عمها “فضل الله” أمامها بموتره الصيني، وهو يقول: خلاص يا “تهاني” خليتي تقاليد الأسرة وعاوزه تتزوجي بضراعك ومن غير رغبة كل الأهل، والله تندمي علي البتعملي فيه دا، ما كان أحسن تتزوجي ود عمتك، يعني شنو متزوج ثلاث نسوان، أبوكي قبل ما يتزوج أمك ما كان متزوج واحدة جلابية وواحدة جنوبية، من متين أصبح الزواج من ثلاث عيب. مبروك عليك المتمرد، ولكن بتندمي علي خطوتك دي.
انصرف قبل وصول “حماد” بموتره الذي يتميز بصوته المرتفع وأنواره (الزنون) الساطعة، وقف ولم يترجل كعادته، وأشار لها بأن تركب معه، وضعت قدمها على تكالة الموتر وأسندت زراعها علي كتف “حماد” الذي شعر بنعومة اليد وتغلغل العطر النسائي إلى قلبه المترع بالحب. قالت: ليه ما سلمت عليَّ.
لأني مشتاق ليك شديد
وإذا أنت مشتاق لي ليه..
وقف “حماد” عند الشارع المودي إلى الكنيسة القبطية المهجورة بسبب مغادرة أغلب الأقباط مدينة كادقلي بسبب الحرب، ولم يبق منهم إلا رجل أعمال وحيد يدعى “وصفي كندس”، لكنه غير ملتزم بالصلاة في الكنيسة التي غادر رهبانها وقساوستها المدينة فراراً من الحرب، وفي تلك المنطقة التي تخلو من المارة في ذلك الوقت إلا من بعض القادمين من حي “ارفع صدرك” الذي يشتهر بصناعة الخمر والقادمين منه لا يبالون بمن حولهم، ترجلت من الموتر وأخذها إلى أحضانه بعنف شديد حتى أقشعر شعر جسدها، ولكنها شعرت بارتياح رغم ابتعادها عنه بسرعة شديدة وهي تقول: لا لا كده عيب، يا”حماد” نحن في الشارع.
لكنه بدا مزهواً وحقيبة الزواج في بيت الوالدة، وقد تجمعت النساء لرؤية الملابس وعدَّها والتأكد من جودة العطور.
خلاص اتجمعوا القلبين وخلاص
اتوحدوا الأملين
ما بصدق يا “تهاني” زواجنا قد أصبح حقيقة وواقع.
وحتى الحلقة القادمة