رأي

بعد ومسافة

الشاعر والفنان.. علاقة مضطربة
مصطفى أبو العزائم

مرت ذكرى رحيل الشاعر والفنان قبل أيام قليلة، في السابع عشر والثامن عشر من (فبراير) الحالي، لكن الشاعر “إسماعيل حسن” توفي في العام 1982م، وهو في الثانية والخمسين من عمره، بينما توفي الفنان “محمد وردي” في الثامن عشر من (فبراير) عام 2012م، وهو كما يعلم الجميع من مواليد العام 1932م، لكن ما جمع بين الشاعر والفنان شكّل إبداعاً عظيماً أسهم في تشكيل وبناء الوجدان السوداني منذ أن جاء الفنان “محمد وردي” إلى الخرطوم عام 1957، واتجه صوب الإذاعة في أم درمان ليلتقي بالمذيع الشاب – وقتها – “علي شمو” الذي استمع إليه وأعجبه صوته وانبهر بأدائه، فأسمعه لمراقب عام الإذاعة وقتها – مديرها – المرحوم “محمد عبد الرحمن الخانجي” ولكبار العاملين بها المرحوم “خاطر أبو بكر” و”محمد صالح فهمي” الذين أخذوا يطلبون من الفنان القادم من مدينة شندي التي كان يعمل بها معلماً في المدارس المجلسية، يطلبون منه الغناء وعندما يفعل يستزيدونه إلى أن تدخل الأستاذ “علي شمو” وقال لهم (يا جماعة مواعيد الصلاة جاءت.. إنتو ناسين واللا شنو؟).. فقد كان مقدم “وردي” إلى إذاعة أم درمان في يوم (جمعة).
اهتم به “علي شمو” وقدمه للملحن والموسيقي “خليل أحمد”، ثم قدمه لشاعر شاب جاء لتوه من مصر التي درس في إحدى كلياتها الزراعية الجامعية، وكان الثلاثة تقريباً في ذات السن، فكانت علاقة قوية استمرت وقدمت بداية (الليلة يا سمرا) و(يا طير يا طاير) لتتوالى الأغنيات التي ذاعت وراجت وسكنت الأفئدة وخلدت، لكن ذلك لم يستمر طويلاً رغم النجاح الذي تحقق، فقد تدخل (أولاد الحلال) من ناقلي القيل والقال بين الرجلين، حتى لم يعد هناك درب تسير عليه خطواتهما معاً، خاصة وأن الراحل “محمد وردي” أخذ يبحث عن أصوات شعرية جديدة تعبر عن بعض ملامح التجديد، وعدّ الراحل “إسماعيل حسن” ذلك تعالياً غير مبرر من الراحل “محمد وردي”.
أعتقد في قرارة نفسي أن ذلك لم يكن هو السبب الحقيقي، حتى وإن بدا كذلك أو تم الترويج له، رغم أنني لم أسمع بالسبب الحقيقي من الشاعر أو الفنان، ولم تكن علاقتي بالراحل “إسماعيل حسن” بالعلاقة القوية أو الخاصة، رغم أنه كان راعياً للشعراء الشباب، وكنا نعتقد أنه الأب الروحي في دنيا الشعر لصديقنا وزميلنا الأستاذ “مختار دفع الله” وآخرين، وغير ذلك فإن الشاعر لم يعش طويلاً، فقد مات وهو في مطلع الخمسينيات من العمر ونحن في بدايات حياتنا العملية في بلاط صاحبة الجلالة، على العكس بالعلاقة القوية المتينة التي ربطت بيني وبين الفنان الكبير الراحل “محمد وردي” ومعرفتي اللصيقة به وتواصلي معه بانتظام.
أعتقد شخصياً أن السبب الرئيسي للجفوة بين الشاعر والفنان كان سياسياً بالدرجة الأولى، وهو ما لم يقله أي منهما، وقد راجعت موقف الرجلين من انقلاب الرائد “هاشم العطا” رحمه الله – الذي اتهم الحزب الشيوعي بالوقوف خلفه ودعمه في 19 يوليو 1971م، فكان أن وجدت موقف الفنان يؤيد المسار التصحيحي للثورة، بينما اتخذ الشاعر موقف السلطة العائدة والنظام الذي استعاد مقود السلطة بعد ثلاثة أيام فقط من الانقلاب عليه، لتجري بعد ذلك أنهار الدم في مناطق عدة منها (الدروة) التي شهدت إعدامات العسكريين، أو ساحات السجون التي شهدت إعدام المدنيين، أولئك بالرصاص وهؤلاء الشنق، بينما تمت تصفية العشرات داخل بيت الضيافة.
مواقف الشاعر “إسماعيل حسن” المتناقضة مع مواقف الفنان “محمد وردي” في شؤون الحكم والسياسة والانتماءات العقائدية باعدت بينهما كثيراً ولا زالت الذاكرة السودانية تحفظ ما كتبه الراحل “إسماعيل حسن” عقب فشل محاولة الغزو المسلح التي قادها الراحل “محمد نور سعد” للاستيلاء على السلطة من الرئيس الراحل “نميري” عام 1976م، فقد هجا الشاعر كل السياسيين من أعضاء ومكوني الجبهة الوطنية التي قامت بالمحاولة، ولم يستثنِ منهم أحداً، ولم يسلم من هجائه المرحوم “الشريف حسين الهندي” – رحمه الله – ولا المرحوم “حسن عبد الله الترابي” ولا السيد “الصادق المهدي” – أطال الله عمره – ولا غيرهم، وأحسب أنني احتفظ في مكتبتي الخاصة بنص تلك القصيدة وهذا في حد ذاته زاد من الفجوة بين الرجلين، وعمّق الهوة التي كانت تزيد إلى أن وصلت حد القطيعة، لكنني أؤكد أن الراحل “محمد وردي” لم يشر إلى ذلك من قريب أو من بعيد.. بل إن أستاذنا الجليل والهرم الصحفي الكبير “حسن ساتي” – رحمه الله – سعى في أخريات أيامه إلى إجراء مصالحة بين “وردي” الذي يسميه بـ(الفرعون)، وبين أسرة الراحل “إسماعيل حسن” ممثلة في إحدى كريماته، وقد التقيت بها في حضرته ذات يوم داخل مكاتب الصحيفة التي أسسناها مع آخرين خلال تلك المحاولات الجادة للمصالحة.
أخبرني الراحل “محمد وردي” عن آخر ليلة للأستاذ “حسن ساتي” وقد قضاها معه ليرحل عن الدنيا عصر اليوم التالي، لكنه أيضاً لم يشر إليّ لما جرى بينهما حول موضوع تلك المصالحة، لذلك أرى أن ما أكتبه في ذكرى رحيل رجلين أثريا حياتنا الفنية بالدرر الغنائية العظيمة، ليس أكثر من مجرد محاولة جديدة لوقائع قديمة.
رحم الله الشاعر “إسماعيل حسن” والفنان “محمد وردي” وأستاذنا “حسن ساتي”.. رحمنا الله جميعاً.. فقد رحل الشاعر والفنان والصحفي، لكن أعمالهم وإبداعهم ظل باقياً.. و.. سيظل بإذن الله.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية