رأي

مداخلة في الجدل حول التفاوض بين الحكومة وقطاع الشمال

لم ينقطع الجدل حول جدوى، بل أحياناً حول مشروعية التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية المعروفة بقطاع الشمال، وذلك منذ صدور قرار مجلس الأمن رقم (2046) الذي قضت فقرته الثالثة بهذا التفاوض. وقد ارتفعت حدة الجدل في هذا الشأن في الأسبوعين الأخيرين على خلفية إقرار المكتب القيادي للمؤتمر الوطني التفاوض بخصوص ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بموجب القرار المذكور، وتوجه وفد الحكومة فعلياً إلى العاصمة الأثيوبية لهذا الغرض برئاسة د. كمال عبيد. ومن الواضح أن مواقف العديد من الأطراف المعنية بهذا الموضوع تتسم بقدر غير قليل من التناقض والارتباك.
وبوسع المراقب تفهم دواعي ما نشهده من تناقض وارتباك، بالنظر إلى أن الحالة السودانية غدت سخية في رفد الساحتين الداخلية والخارجية بنماذج غريبة وشاذة، وليست الحالة التي نحن بصددها بدعاً من ذلك. فمن هذه الغرائب أن يصرّ قادة الحركة الشعبية السودانيون حتى الآن على تعريف فصيلهم بقطاع الشمال حتى آخر وثيقة قدموها للوساطة الأفريقية، علماً أنه لا توجد دولة في الكرة الأرضية تسمى شمال السودان، هناك جمهورية السودان وتقابلها في مفاوضات أديس أبابا دولة جنوب السودان. فعقلية قادة الحركة الشعبية السودانيين لم تدرك بعد المقتضيات السياسية والقانونية لغدو الجنوب دولة أجنبية. وهكذا فليس بمستغرب أن تتحدث وثيقة قطاع الشمال المقدمة للوساطة التي تحمل موقفه التفاوضي في ستة عشر سطراً عن العلاقة مع دولة الجنوب مقابل سطر ونصف السطر عن قضية المنطقتين بدون تعريف إمعاناً في الاستهتار.
ولذا فقد كان وفد الحكومة محقاً من الناحية الدبلوماسية البحتة في الاستفسار من الوساطة عن الكيان الذي تنسب الحركة الشعبية المعنية لشماله. كما كان محقاً في الاستفسار عن المنطقتين المعنيتين، حيث لم يكلف قادة قطاع الشمال أنفسهم عناء تعريفهما في مستند رسمي مقدم في محفل دولي كما تقتضي أبجديات المسؤولية، ولكن يزول العجب حين يتعلق الأمر بقادة قطاع الشمال الذين نعلم من هم. ومن غرائب الحالة السودانية كذلك أن يقحم مجلس الأمن الدولي نفسه في ما  يخص العلاقة بين تنظيمين سياسيين داخل دولة واحدة، ويضمن ذلك في قراره، وهذا بالضبط شأن الفقرة الثالثة من القرار (2046).
ومهما يكن من شيء، ومع تفهمنا لدواعيه، فإن ما نشاهده من تناقض وارتباك المواقف يشكل في تقديرنا مدخلاً سالباً في مناخ التفاوض، وهذا ما دفعنا لهذه المداخلة بقصد وزن الأمور بقسطاس نحسبه أكثر استقامة، إسناداً لجهود السلام في الولايتين المنكوبتين. ويأتي في صدارة المواقف التي نود الدفع ضدها، الرفض المبدئي للتفاوض مع ما يسمى بقطاع الشمال، الذي تتبناه قيادات سياسية وإعلامية ودينية أبرزها رموز في الحزب الحاكم نفسه وكتاب منبر السلام العادل وجماعة هيئة علماء السودان.
ومع تفهمنا مرة أخرى لحيثيات هذا الرفض المبنية على خطايا ومؤامرات الحركة الشعبية ومكرها الذي تكاد تزول منه الجبال، فلا نتفق مع رفض التفاوض مع قطاع الشمال من حيث المبدأ، ونحسب أن رفض مبدأ التفاوض مع طرف في نزاع مسلح ينطوي على خطأ سياسي فادح، خاصة إذا كان هذا النزاع موضع اهتمام دولي وإقليمي شأن الحالة التي نحن بصددها. فمثل هذا الرفض يرسل رسائل خاطئة في عدة اتجاهات، ويضرب على صاحبه حصاراً سياسياً ودبلوماسياً بلا مبرر.
من هذه الرسائل السالبة غرس قناعة لدى الجهات الدولية والإقليمية ذات الاهتمام باعتماد الطرف الرافض على القوة العسكرية لحل النزاعات عوضاً عن الحوار الذي هو شعار العصر نظرياً على الأقل. هذا الرفض يعطي كذلك مادة تعبوية للطرف الآخر لتحفيز مقاتليه على القتال باعتباره الوسيلة الوحيدة لنيل الحقوق. أكثر من ذلك، فإن رفض التفاوض من حيث المبدأ مع طرف في نزاع مسلح فيه إشارة للأطراف المعنية كافة بعدم الاكتراث لويلات ومآسي الحرب ومصائر من يقاسونها.
ويجدر بنا قبل الاسترسال إجلاء الالتباس الذي يحدث للبعض عند تناول موضوع التفاوض، فالبعض (وأنا هنا لا أتهم أحداً) يظن أن مجرد التفاوض أو التحاور مع طرف يعني الاعتراف بمشروعيته، وهذا بالطبع غير صحيح. ومثل هذا التوهم هو ما دفع قادة قطاع الشمال في الوثيقة التي حملت موقفهم التفاوضي للمطالبة بإصدار الحكومة بياناً تعلن فيه الاعتراف بقطاعهم كشرط للتفاوض. وواقع الأمر أن الحوار مع جهة ما لا يعني بالضرورة الاعتراف بمشروعيتها، وعلى سبيل المثال فقد ظلت حكومات السودان منذ عام 1986م وحتى عام 2005م تفاوض الحركة الشعبية بالرغم من تعريفها حركة متمردة وخارجة عن القانون، ولم يتم الاعتراف بمشروعية هذه الحركة إلا بعد توقيع اتفاقية نيفاشا في يناير 2005م. وهنالك عشرات الأمثلة في طول العالم وعرضه تؤكد هذا المعنى. أما الاعتراف بحركة تحمل السلاح وخارجة عن القانون وتقاتل الدولة كأمر واقع، فهذا مما لا مجال لإنكاره. ومعلوم بداهة إن الاعتراف بجهة ما كأمر واقع (De facto) لا يعنى الاعتراف بمشروعيتها (De jure). يعتقد البعض كذلك، خطأ، أن الحوار أو التفاوض مع جهة ما يعني بالضرورة تقديم تنازلات لها. وصحيح أن أية تسوية لنزاع مسلح تتطلب قدراً من التنازلات من أطرافه، بيد أنه يمكن التفاوض بدون تقديم أي تنازل، إذ يمكن أن يقال للطرف الآخر إن موقفك خاطئ ولا يسنده منطق وعليك الانصياع للحق. ونقول ذلك لنؤكد نظرياً أن التفاوض لا يعني حتماً تقديم تنازل للطرف الآخر.
أما واقعياً، فبالرغم من أن مجرد التفاوض مع قطاع الشمال لا يعني ولا يتطلب الاعتراف بمشروعيته، إلا أنه يعدّ نوعاً من التنازل، ولكنه تنازل مبرر. أجل، إن مجرد الجلوس مع جهة رفعت السلاح في وجه الدولة بلا مبررات كافية، وقتلت، وخربت، وتسببت في معاناة الآلاف للتحاور للتوصل إلى تسوية، يعدّ تنازلاً كبيراً، إذ إن المعاملة الطبيعية المتسقة مع القانون هي أن تعاقب هذه الجهة على جرائمها، بيد أن المنطق السياسي يختلف عن المنطق الجنائي، وهذه قضية سياسية مهما حدثت فيها جرائم وتجاوزات فلا بد أن تخضع لحسابات السياسة.
وبحسابات السياسة هناك حرب دائرة منذ أكثر من عام في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق قد خلفت آثاراً كارثية على مواطنيها واستنزافاً هائلاً لإمكانيات الدولة، وبعد أكثر من عام لا يلوح في الأفق ما يبشر بحسمها عسكرياً. وإذا كان السلام ضرورة وهو مطلب الجميع، بمن فيهم رافضو التفاوض، فلا أمل لتحقيقه على الأرجح إلا بالحوار.
إذن فحديث البعض بأنهم دعاة سلام، وفي ذات الوقت رافضون للتفاوض مع الطرف الآخر في النزاع من حيث المبدأ، ينطوي على تناقض بيّن.
إننا جميعاً ضد تقديم أي تنازلات من شأنها تمكين الحركة الشعبية من إعادة إنتاج الأزمة أو إنفاذ مخططها التخريبي في السودان عبر جبال النوبة والنيل الأزرق. ونظن أن  الموقف الحكومي المعلن حتى الآن، والمتمثل في لا نيفاشا جديدة، ولا مجال لجيشين، ولا مجال لتسوية ثنائية تدعي فيها الحركة الشعبية زوراً تمثيل أهل الولايتين، هذا الموقف صحيح ومتسق مع الشرعية والمنطق، ونحن ندعمه ونحثّ الحكومة على عدم التنازل عنه قيد أنملة. وهذا الموقف أقوم وأجدى من رفض التفاوض من حيث المبدأ وإرسال رسائل خاطئة لا تفيد إلا الخصم.
ومن المواقف المرتبكة والمربكة التي تستحق الوقوف عندها، ما يصدر من بعض الأطراف المحسوبة على النظام، ونستخدم عبارة النظام (The regime) لندرج تحتها كل المنظومة التي تشكل بنية السلطة الحاكمة من  حكومة تنفيذية، ومؤسسة تشريعية، وحزب حاكم، وكل الواجهات والمنظمات ذات الصلة. فهذه الكيانات مهما تعددت واختلفت مهامها الوظيفية فالمنطقي أنها تنطلق في مواقفها من مرجعية واحدة، والمنطقي أن تكون قرارات المكتب القيادي للحزب الحاكم هي المرجعية العليا الملزمة وبدون ذلك لا معنى للمؤسسية. وعليه، فمن الغريب أن تصدر تصريحات ومواقف عن رموز وقيادات مرموقة رسمية وحزبية تناقض ما أقره المكتب القيادي للمؤتمر الوطني، وأصبح معلوماً للقاصي والداني، وهو التفاوض بشأن قضيتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وفق القرار (2046)، وتنص الفقرة الثالثة من هذا القرار: (أن تقيم حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال تعاوناً كاملاً مع فريق الاتحاد الأفريقي ورئيس الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية بغية التوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات على أساس الاتفاق الإطاري بشأن الشراكة السياسية المبرم في 28 حزيران/يوليو 2011م بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال). لا معنى بعد القبول بهذا النص وابتعاث وفد لأديس أبابا، للحديث عن عدم التفاوض مع قطاع الشمال الذي صدر عن عدد من الرموز الحزبية والرسمية. صحيح أن هناك مجالاً لتأويل نص القرار وفهمه بما يتسق مع مبدأ السيادة الوطنية الذي أمن عليه القرار بقوة في أكثر من موضع، لكن لا يمكن أن يدخل في إطار التأويل عدم التفاوض مع قطاع الشمال. إننا نتفهم الحرج الذي وجدت فيه الحكومة نفسها بعد أن طالبها القرار (2046) بالحوار مع قطاع الشمال على أساس الاتفاقية الإطارية التي ألغاها رئيس الجمهورية في العام الماضي. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي تتراجع فيها الحكومة تحت الضغوط عن قراراتها العجلى غير المحسوبة بدقة، وإذا أردنا تقديم أمثلة فالقائمة ستطول بلا شك. ومهما يكن، فإن يكون موقف الحكومة الرفض ثم القبول، خير من أن يكون الرفض ثم القبول ثم الرفض ثم القبول. ثم أن تناقض تصريحات مسؤولين مرموقين مع الواقع الماثل أمام الجميع فيه حرج  أكبر من مجرد التراجع عن موقف سابق.
 ونأتي أخيراً للتعليق على ما ينادي به البعض لحصر وفد التفاوض أو على الأقل قيادتها في الطرفين على أبناء المنطقتين المعنيتين، ومطالبة البعض بمشاركة كل القوى السياسية والشعبية في المفاوضات. في هذا السياق، فقد استنكر علينا البعض عدم انتقادنا لقيادة د. كمال عبيد لوفد الحكومة باعتباره ليس من المنطقتين، مثلما رفضنا تمثيل ياسر عرمان ووليد حامد لهما. ورداً على ذلك، نقول بكل تواضع إن القياس لا يستقيم، فأعضاء وفد الحكومة، بمن فيهم محمد مركزو وعبد الرحمن بومدين وغيرهما، يمثلون الحكومة وهي الطرف المتظلم ضدها. والحكومة بالطبع لم تدع تمثيل أية جهة، بل هي مسؤولة عن الجميع ومن حقها الاستماع لأي طرف متظلم والرد عليه بمن تختار. ولكن هذا لا ينطبق على جهة متظلمة، إذ لا يستقيم أن يتوارى أهلها ليتحدث عنها من لا صلة لهم بها.
أما بالنسبة للمطالبين بمشاركة أهل المنطقتين بقواهم السياسية والشعبية في المفاوضات، فذلك واقعي فقط في مرحلة لاحقة. ومن الناحية الواقعية لا بد أن تبدأ المفاوضات في مرحلتها الأولى ثنائية بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال، فحتى إذا تجاوزنا الصعوبات اللوجستية لوفد يمثل القوى السياسية والشعبية كافة، فهناك قضايا أساسية قومية خاصة في مجالات الدفاع والأمن هي مسؤولية حصرية للحكومة لا يمكن لأية جهة تحمل تبعاتها. والمفاوضات في الملفات الحساسة لها فنيات وتكتيكات  وأسرار لا يمكن أن تكون مفتوحة للجميع.
إن رفضنا للتسوية الثنائية الذي ظللنا نرفعه بقوة، يعني من الناحية العملية أمرين: الأول، هو الاتفاق على المبادئ الأساسية للتسوية في كل جوانبها بالتشاور. وثانياً، أن تفضي المفاوضات في مرحلتها الثنائية إلى إحالة التسوية النهائية الخاصة بحقوق المنطقتين السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها لحوار شامل يشترك فيه كل أصحاب المصلحة، وهذه هي روح المشورة الشعبية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية