سلطان بلد
احتفالية مدينة الفاشر اليوم بمئوية سلطان السودان “علي دينار” تجسد اعترافاً بفضل تلك السلطنة التي وضعت أساس قومية السودان الحالي.. وإذا كانت الثورة المهدية قد حققت للبلاد استقلالها الحقيقي من الحكم الأجنبي وأرست دعائم أول سلطة مركزية وحدت أهل البلاد تحت راية الإسلام والقومية السودانية، فإن السلطان “علي دينار” هو أول من وحد دارفور في ثوب جمع شتات القبائل والمجموعات الصغيرة في سلطنة هي الأكثر رسوخاً في التراب الوطني، وقد ظلمت سلطنة الفور من قبل المؤرخين الأجانب وكُتّاب تاريخنا من الوطنيين الذين تأثروا بالدعاية السوداء التي بثتها جيوب الاستعمار حول كل حكم وطني، منذ مملكة “علوة” وحتى سلطة “الإنقاذ” الحالية.
ما كانت سلطنة الفور حكم قبيلة وعائلة وعشيرة، بل كان السلطان “علي دينار” خادماً لأهل السودان وحد الفور والزغاوة والتنجر والميدوب والرزيقات وخزام والبرنو والميما.. والتعايشة والبني هلبة والمراريت، وتشكل مجلس السلطان وهو بمثابة مجلس الوزراء في الحكم الحديث من كل القبائل والسحنات، وتتخذ سلطنة الفور القرار بإجماع مجلس السلطان لا بهوى ونزوة ورغبة السلطان “علي دينار”.. ونافح ودافع عن تلك الدولة السودانية كل أبناء الرقعة الجغرافية، وهو دفاع عن الحق وعن المصالح والتراب.. وما كان السلطان “علي دينار” باطشاً ولا دكتاتوراً.. كان حاكماً مسلماً، مدد عطاء السودان خارج الحدود وهو يقدم الغذاء من ذرة وعسل ولحم لحجاج بيت الله الحرام، بل حفر الآبار لشرب الماء.. وكان حرياً ،أن تسمي آبار “علي دينار” بهذا التعريف، بدلا من تركها هكذا (” آبار “علي” ) ما قد يطمس جهد هذه الدولة التي وضع حجر أساسها الإمام “المهدي” والسلطان “علي دينار”.
تلك قاعدة دارفور الصلبة التي يقف عليها اليوم الحكم الوطني في بلادنا.. وقد حافظت أسرة السلطان “علي دينار” على قومية جدها سلوكاً ومنهجاً.. ولعبت السلطنة في التاريخ الوطني دوراً في توحيد أهل دارفور لأنها السلطنة الوحيدة المؤهلة لجمع شتات الإقليم الحالي، وفي سنوات الحرب التي انقشعت أخيراً وتبقت آثارها وقف سلطان الفور “حسين أيوب علي دينار” ومن بعده السلطان الحالي “أحمد حسين” مع السلام.. ونبذا الحرب وظلت دعوتهما للحل السلمي والحوار حافزاً للأطراف المتقاتلة حتى تحقق السلام الحالي.
واحتفالية السلطنة اليوم بمئوية السلطان “علي دينار” تجسد القومية في أسمى معانيها.. وهي احتفالية بالتاريخ الإنساني والثقافي والاجتماعي لهذه السلطة الوطنية.. وحسناً أقبل “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية على تشريف الحدث وإعلاء شأنه، ومنحه قدره، لأن التاريخ هو شريان العطاء الحاضر والمستقبل.. وحينما تحتفل الفاشر اليوم بمئوية السلطان إنما تحتفل نيابة عن مروي وسنار ودنقلا.. وكادوقلي والخرطوم.. بواحدة من الثورات الوطنية العظيمة التي قادها رجال أفذاذ صنعوا مجد بلادنا.. وهي مناسبة تنتظر من الدولة ممثلة في السلطة العليا أن تتخذ قرارات مهمة جداً بشأن ثورة السلطان “علي دينار”، بتكوين لجنة من العلماء لإعادة تنقيح ما كتب عنها، وتوجيه إدارة المناهج بوزارة التربية والتعليم بإعادة الاعتبار لكل الثورات الوطنية بتدريس تاريخ البلاد وفق رؤى تعزز قيم الوطنية والتحرر، والانعتاق من الاستعمار السياسي والثقافي والتاريخي.