أخبار

خربشات(الجمعة)

“سر أناي” قصة عميقة حفرت في وجداني جرحاً عميقاً لوطن ضاع بين أيدينا بسوء التقدير والتدبير.. و”سر أناي” الشاعر الدينكاوي الذي لهث وراء سراب الوحدة طويلاً وعاش صباه بين الخرطوم وجوبا ينشد وطناً اشتراكياً على مذهب المعلم “جوليوس نايريري” وقريباً من ثورية “كوامي نكروما” التي انتهت به انتهازياً يحتضن فتاة مصرية من أجل لون بشرتها البيضاء، وكان ثمن الزواج شحنة من ذهب غانا لمصر التي غنى لها من بعد غياب أطفاله.. قريباً من تلك السنوات حينما يكتب “كمال الجزولي” في حفريات التاريخ القريب من روزنامة إلى بروفايل لشخوص من قارعة الشارع ويحيلهم إلى نجوم بدقة التصوير وعمق التحرير.. من هؤلاء الشاعر “سر أناي” أو “بيتر أناي” ذلك الفتى نحيل الجسد فارع الطول.. و”كمال الجزولي” الأديب والشاعر والقاص والصحافي طيب المعشر.. يحترم الآخر حتى لو كان من خصومه، ولم أجد لـ”كمال الجزولي” خصوماً كما بدا لي وما بين “كمال” الشيوعي و”كمال” الشاعر الإنسان.. كما بين “غازي صلاح الدين” المفكر و”غازي صلاح الدين” السلطان.. وإذا كان “سر أناي” قد بدل اسمه من “بيتر” إلى “سر” بسبب تعامل شخصي بينه و”سر الختم الخليفة” ،الإداري الفذ الذي كان يحكم الجنوب.. وينظر للشعب الجنوبي كبشر (لا عبيد).. عند ترشيح “بيتر أناي” للقبول بمدرسة رمبيك الثانوية التي تماثل حنتوب وخورطقت في البريق والسمو، فرض عليه دفع رسوم دراسية لا يملكها والده الفقير ولا أحد يلوذ إليه.. و”بيتر أناي” شغوف بالتعلم.. ولكن حالت بضعة جنيهات بينه وتحقيق تلك الرغبة، امتطى ظهر لوري من قريته كوك جنوب رمبيك قاصداً مدينة جوبا للقاء مدير المديريات الجنوبية “سر الختم الخليفة” الذي كان يستطيع الوصول إليه أي إنسان يقصده.
(2)
في مكتب “سر الختم الخليفة” لم تفض دموع “بيتر أناي” لأن للدينكا شموخ وكبرياء وعزة نفس تجعلهم دائماً في مقام الكبار.. لكنه روى قصته ورغبته في الانضمام للطلاب في مدرسة رمبيك.. مثل الآخرين.. وضع “سر الختم الخليفة” يده الناعمة على رأس “بيتر أناي” ولامس خصلات شعره القرقدي.. والشعر القرقدي تغنت له أشهر مغنيات الدلوكة في الأبيض عاصمة إقليم كردفان تدعى “زهراء الرقاشة” وكانت تمجد الفتاة ذات الشعر القرقدي في إشارة ذكية جداً لاعتبار الزنجية مزية وليست منقصة حينما تضرب بكفها الدلوكة.. وتصدح (أم شعيراً قرقد بالدهان ما برقد إلا بالبينسات) حتى تصل لقمة هياج رقصة العروس) أنت كلك زينة وسابحة كالوزينة يحفظك مولاي.. سأل “سر الختم” الشاب القادم من قرية (كوك) ريفي رمبيك عن أحوال والدته ووالده.. وأهله وعشيرته وكيف أحوالهم الخاصة، كان حكام ذلك الزمان يشغلهم الإنسان ولا يسيطر على فكرهم الأمن السياسي والاقتصادي، واليوم إذا ذهب شاب من قرية كوك إلى جوبا وقدر له لقاء “سلفاكير” فإن السؤال الأول الذي يصفع به زائره عن الأوضاع الأمنية.. أعفى “سر الختم الخليفة” الشاب “بيتر أناي” من رسوم الدراسة وأمر بقبوله مجاناً في المدرسة الثانوية.. بعد تلك الواقعة بدل “بيتر أناي” اسمه إلى “سر أناي” حباً وتقديراً لـ”سر الختم الخليفة” حسبما جاء في شهادة “كمال الجزولي” وكلاهما يجمعهما الفكر الاشتراكي والشاعرية وقد ارتقى “السر أناي” مقام كبار شعراء بلادي، وقد كتب قصيدة دامعة تقطر حزناً وهي تغرز أنياب حروفها في سطور الهوية الضائعة.. لكن ما بين “سر أناي” ولاعب كرة قدم أفواري الأصل أي من ساحل العاج وإنجليزي المولد والنشأة شيء من هذا وذاك وتلك قصة من أرشيف التاريخ وهذه رواية من واقع اليوم.
(3)
“سر أناي” أخذته جمائل مدير المديريات الجنوبية “سر الختم الخليفة” لتغيير حتى اسمه وتغيير نظرته، ولكن بعد سبعة وخمسين عاماً من ذلك التاريخ.. يتعرض فتى عاجي هو “الفريد ساها” لصدمة عنيفة جعلته يبدل وطن المولد بوطن الجذور، وإذا كانت واقعة “سر أناي” في جوبا فإن مسرح “الفريد ساها” في عاصمة الضباب والحضارة لندن البعيدة،  التي ميادينها ذات عشب أخضر تمني ناظر المسيرية أن ترعى فيها قطعانهم التي تجوب البلاد من شمالها لجنوبها بحثاً عن الكلأ، وذلك في زيارته ضمن وفد العشائر لبلاد لا تغيب عنها الشمس كما يقولون، لكن شمس المساواة قد غربت ولاعب فريق (كريستيان بلاص) الجناح الطائر يختار العودة لجذوره الأفريقية وتمثيل بلاده الأصلية ساحل العاج في الخامس عشر من يناير الجاري ، حينما تنطلق فعاليات البطولة. “الفرد ساها” نشأ في أحضان نادي مانشستر يونايتد كبير الإنجليز ولعب لإنجلترا ضمن منتخب الناشئين فأمطر شباك منافسيها بالأهداف.. وارتقى لتمثيل إنجلترا فئة الشباب.
وفي العام الماضي تم اختياره لتمثيل إنجلترا في مباراة ودية في عهد المدرب الإيطالي “فابيلو كابيلو”.. ولكن مع حضور المدرب الإنجليزي الشاب “فلانسجث” فقد “الفريد ساها” فرصته.. وقدم إليه أحد مساعدي المنتخب تبريراً عنصرياً بأن لاعبي المنتخب من حملة البشرة السمراء زاد عددهم عن خمسة لاعبين.. هم “نلثان كلاين” الظهير الأيمن.. وهو من أصول كنغولية و”دانيال أستوردج” من أصول غانية.. مهاجم ليفربول.. و”ديلي علي” من أصول جنوب أفريقية و”داني روز” الغاني.. فإن صورة إنجلترا ستغيب عن ملامح المنتخب ويصبح الإنجليز مثل الفرنسيين وما هم بفرنسيين، وبالتالي على “الفرد ساها” البحث عن فرص أخرى.. تلك الكلمات أدمعت الفتى الأفريقي الحريف.. وأعلن في الحال رغبته لمدرب ساحل العاج تمثيل بلاده الأصلية لا البلاد التي ولد فيها وعاش عمره إنجليزياً.. قطع شعرة الانتماء الجغرافي إلى الانتماء الثقافي والاثني، وقرر الدفاع عن ألوان منتخب ساحل العاج الذي لا يقل قيمة عن المنتخب الإنجليزي في الراهن الرياضي.. وحينما تنتصر في نفس الإنسان نوازع الانتماء العميق لأصله يخلع ما دون ذلك من الانتماءات.
(4)
“سر أناي” الشاعر الذي كتب القصائد الرقيقة في حفيف نهر النيل.. وسحر فتيات سمر يشع من وجوههن ألق وضياء.. ما بين انتماء “الفريد ساها” لوطنه الأصل وتقديم “سر أناي” شهادات إثبات لدعاة عروبة السودان قبل أن ينفصل الجنوب ويذهب لحال سبيله. كتب “أناي” قصيدة لا تزال حروفها ورمزياتها شاخصة في واقعنا اليوم رغم ذهاب الجنوب وفي قصيدته (ابن عمتي محمد) لإثبات تمازج العرب والزنوج في هذا الوطن يقول:
أبوك ذلك العربي جاء زمان
بثقافة قومه وبالقرآن
ولكن بلا أمة يتخذها زوجة
جاء يروم العيش بين أصدقاء
لا بين عبيد جاء كي يعيش
دونما أدنى اعتبار للونه أو عنصره
كان ميسوراً له على الدوام
أن يحيط نفسه كيف شاء
بالجواري والصبيات الحسان والإماء
وهكذا أثبت ابن عمتي “محمد”..
بين “الفريد ساها” وقصته اليوم و”سر أناي” خيط رفيع.. ووشم على الخد مبين وكل عام والجميع بخير.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية