محنة الصحافة
يوم (الخميس) الماضي وقبل الوصول لمقر المؤتمر الصحافي لنائب رئيس حزب المؤتمر، مررت بالشارع المؤدي لمجلس الصحافة، ولمحت تجمعاً لزملاء أعزاء يرفعون لافتات تندد بمصادرة السلطات للصحف ويطالبون من رئيس المجلس الشاعر والأديب والصحافي رزين العبارة “فضل الله محمد” تحمل مسؤولياته نحو مهنة تنحدر لأسفل مسرعة لتلقى حتفها في مناخ الصراع الذي يغشى بلادنا منذ سنوات ولم تتعاف منه بعد.. عدت لمؤازرة الزملاء الأعزاء والوقوف معهم، وهو وقوف مع المهنة.. ومع النفس قبل أن يكون تضامناً مع د.”زهير السراج” أو “عثمان شبونة”.. الموقوفان بأمر السلطات.. رغم أن قادة الاحتجاج من الزملاء الصحافيين يحتكرون لأنفسهم الحق المقدس في الدفاع عن حرية الصحافة ويضعون الآخرين في ضفة (المعاديين) أو المناوئين لحرية الصحافة، لذلك تقتصر الدعوات للوقفات الاحتجاجية على أشخاص بعينهم وتيارات محددة، مع أن قضية الحرية لا خلاف حولها.. وما تعتبرهم المعارضة موالين للنظام ومنافحين عن سياساتهم هم أكثر الصحافيين تضرراً من سياسات الحكومة.. وما وجده الصحافيين الإسلاميين من عنت ومشقة ومصادرة لصحفهم وحرمانهم من حقوقهم كمواطنين لم يتعرض له اليساريين من الزملاء.. أو قل التيار المناوئ فكرياً للإنقاذ، ودونكم ما يتعرض له “حسين خوجلي” و”محجوب عروة” وما تعرَّض له الشهيد “محمد طه” و”إسحق فضل الله” و”عمار محمد آدم” و”جمال عنقرة” وآخرين بعدد الحصى بينما ينعم البعثيين والشيوعيين بمال وصحافة السلطة ويغمزون بأعينهم لبعضهم ازدراءً بغفلة هؤلاء الدراويش.
ومحنة الصحافة في بلادنا، جزء من محنة السياسة التي تلقي صراعاتها بظلال سالبة على الأداء الصحافي حينما (تركب) المعارضة سرج الصحافة وتستخدمها في صراعها (الدامي) مع السلطة.. وتجد الأخيرة نفسها مرغمة على الدفاع عن نفسها بالطرق التي تعتقد أنها صحيحة.
وإذا كانت الحكومة تتخذ إجراءات غير دستورية في المصادرة والإيقاف، فإن الذين يتخذون تلك القرارات- أيضاً- يفسرون بعض مواد القانون التي تتخذ عن حق السلطات في اتخاذ أي تدابير لحماية الأمن القومي من التهديد.
ومحنة الصحافة في السودان ليست بمعزل عن محنها في الإقليم.
والعالم العربي حتى في دوحة الديمقراطية والحرية (لبنان) توقفت أمس الأول صحيفة “السفير” أعرق مدرسة عربية وأكثرها اهتماماً بجزالة اللفظ وبريق الحرف.. وأعلنت “السفير” التي كان كاتب هذه السطور مراسلاً لها من الخرطوم لسنوات تعلَّم من مدرستها وانتفع من راتبها المحترم. و”السفير” أعلنت غيابها الأبدي لأسباب اقتصادية.. وليست سياسية كما يعتقد البعض.. وتواري “السفير” عن الأنظار وغيابها عن عيون العرب هي فاجعة لا تقل عن رحيل الرسام (والكاريكاتيرست) الأشهر الفلسطيني “ناجي العلي” الذي كان واحداً من صنَّاع مجدها في السبعينيات. وبعد 42 عاماً، وفي آخر يوم من العام الماضي 2016م، أنهت الصحيفة مشوارها في التوعية والتثقيف، وكتبت في عددها الأخير كلمة حزينة (الوطن بلا سفير)، إلى جانب صورة لقلم مكسور وحمامة قد دمعت عيناها حسرة على الواقع، ومن كلمة الصحيفة الأخيرة نورد هذه العبارات قبل أن نعود لما تعانيه الصحافة في بلادنا.
كانت الصحافة ولا تزال مرآة المجتمع، ولهذا تحديداً كانت متألقة وصارت تعاني، فالمجتمع ليس بخير والسياسة ليست بخير.. ولهذا كله لا يمكن إلا أن ينعكس على الصحافة وينهكها.. تلك هي افتتاحية الوداع لأعرق صحيفة في الوطن العربي، بعد “الحياة” التي أسسها “كامل مروة”.. وفي وطننا السودان حتى اليوم لم تغلق صحف عريقة مثل “الأيام” و”الصحافة” و”ألوان” و”الرأي العام” أبوابها، وتغادر المسرح رغم قسوة المناخ السياسي وتشظيات الساحة بين من يحمل السلاح ويحمل القلم.. وتدهور الاقتصاد وأثره البالغ على اقتصاديات المهنة التي تأثرت أيضاً بالإعلام الجديد، إلا أن بلادنا لا تزال بخير، والأمل في النفوس، إن غداً أفضل من اليوم.