حديث الكسرة
هل كان وزير المالية السابق “علي محمود” محقاً في دعوته للسودانيين بالعودة لموروث قديم في الطعام (الكسرة) بدلاً عن الاعتماد على القمح الأمريكي والاسترالي غالي الثمن؟ والإسلاميون في بواكير حكمهم للبلاد الذي بلغ الآن أكثر من ربع قرن أول من هتف في التظاهرات المؤيدة للانقلاب رافضين (دقيق القمح)، بل رفعت وزارة الزراعة حينها شعارات ولم تضع خطة لاعتماد أهل السودان في طعامهم على ما يزرعون من الذرة والقمح.. وكان الهتاف الذي أصبح اليوم “مذمة” (ما دايرين دقيق فينا قمحنا كتير بكفينا).
الوزير “علي محمود” انتاشته سهام الأقربين والأبعدين حينما دعا للعودة إلى جذور الثقافة السودانية في الموروث الغذائي وحرضت الصحافة عليه (أهل القرار) بادعاء أن الوزير يستخف بالشعب السوداني ويطالبه بشيء (إدّا).. وخصوم الرجل الطامعون في موقعه حينذاك والمستكثرون عليه الإمساك بخزائن المال في الدولة هم الأكثر تحريضاً عليه، طمعاً في موقعه أو بغضاً له.. وهناك المتربصون بالنظام الذين يمنون النفس بإسقاط الإنقاذ من نفوس الشعب قبل سقوطها (فيزيائياً).. ولكن الوزير مرة أخرى عاد أمس للدعوة لأكل الكسرة بدلاً عن القمح غالي الثمن، ولن تهتم الصحافة اليوم بحديثه كثيراً لخروجه من دائرة الجهاز التنفيذي وجلوسه على كرسي البرلمان الذي لا يأبه له أحد.. وبدا أن قناعات “علي محمود” بالكسرة والعصيدة راسخة لا تتزعزع مثل قناعات وزير المالية بتوطين القمح في الشمالية والجزيرة.
وبالعودة للتاريخ القريب فإن الشعب السوداني كان حتى السبعينيات غالب قوته من الذرة وقليل جداً من القمح لسكان ضفاف النيل والمدن التي كانت لا تزيد نسبة سكانها عن (30%) من جملة سكان البلاد قبل أن تغشى الريف الحروب والمجاعات والجفاف والتصحر.. وتعرض السودان في تلك الفترة لمؤامرة أمريكية ناعمة جداً، حينما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة تغيير نمط الغذاء في أفريقيا وآسيا من أجل فتح أسواق في المستقبل البعيد لمنتجات الولايات المتحدة من القمح الأجود في العالم.. ولتغيير نمط الثقافة الغذائية، قدمت الولايات المتحدة المعونات من القمح مجاناً لبعض البلدان حيناً وبأسعار زهيدة في أحيان أخرى.. وبدأ السكان بالمدن في السودان يقلعون عن تناول العصيدة والكسرة أولاً لارتفاع تكلفتها مقارنة بأسعار الرغيف الذي يأتي للسودان شبه مجاني من الولايات المتحدة التي تخطط للمستقبل أكثر من النظرة الآنية.. ولم تمض سنوات حتى أصبح السودان مستورداً رئيساً للقمح الأمريكي رغم أن بلدان أخرى رفضت الإذعان لتلك السياسات مثل إثيوبيا التي حكمها الشيوعيون المناوئون للولايات المتحدة فعجزت عن تغيير النمط الغذائي لسكان الهضبة الإثيوبية البالغ عددهم نحو مائة مليون نسمة.. ونعني بالهضبة دول القرن الأفريقي وليس إثيوبيا وحدها التي عظم حكامها من ثقافتهم الغذائية وحافظت الفنادق الإثيوبية على تقديم وجبة (الأنجيرا) أي الكسرة الحبشية لضيوف البلاد تمسكاً بموروث الشعب الإثيوبي.. ولأن حكام إثيوبيا من “ملس زناوي” و”منقستو هايلي مريام” و”ديسالين” يتناولون الوجبات الشعبية (الأنجيرا)، حافظت قاعدة الشعب على الموروث الغذائي حتى اليوم.. أما نحن في السودان فقد تخلينا عن كل موروث بدعوى الحضارة والتمدن والرقي، وأصبحت خزانة الدولة الخاوية من المال اليوم تدفع (11) مليار دولار لسد حاجة البلاد من القمح، بينما الذرة في القضارف تخزن في مطامير بباطن الأرض.. وتغلق حكومتنا حدودها مع دولة الجنوب التي تعدّ أكبر مستهلك لمنتجات السودان الزراعية، وثقافة الجنوبيين الغذائية هي ثقافة السودان الشمالي لكنها الآن تتغير وتتبدل نحو شرق أفريقيا لسوء واعتلال رؤيتنا الاقتصادية والسياسية وسوء تقديرنا وبؤس تفكيرنا الذي يجعل الدولة تشجع إنتاج القمح على حساب الذرة والدخن، وبعض العلماء الزراعيين يرجحون قيمة الذرة الغذائية على القمح.. ولكن من يصغي لصوت “علي محمود” في دعوته للعودة إلى (الكسرة والعصيدة بملاح أم مطعينة)!!