(المجهر) توثيق لتفاصيل الاستقلال وإرهاصات إنهاء عهد الحكم الثنائي
مؤتمر الخريجين شكل بداية المطالب واجتماع الأحزاب بالقاهرة نقطة النهاية لحقبة الاستعمار
وثقت له ـ هبة محمود
اليوم نرفع راية استقلالنا
ويسطر التاريخ مولد شعبنا
يا إخوتي غنو لنا ..غنوا لنا
يا نيلنا يا أرضنا الخضراء يا حقل السنا
يا مهد أجدادي ويا كنزي العزيز المقتنى
ما أن يبدأ الأول من يناير من كل عام في الإعلان عن اقتراب موعده حتى تبدأ الذاكرة في الاستيقاظ مشرعة معها جميع نوافذ النسيان، وهي تسترجع حدثاً عظيماً ومهماً في تاريخ البلاد، وهو (الاستقلال) الذي نتنسم ذكراه العطرة هذه الأيام، فمع اقتراب موعده، نتوقف عنده، نستحضر مشاهده ونجتر ذكرياته. تستوقفنا الدلالات والعبر لحظة الاحتفاء به، سيما أنه يعد الحدث الأكبر والأعظم في تاريخ بلادنا التي نالت عزتها وكرامتها عقب سبع وخمسون عاماً، من إطباق المستعمر على أنفاسها، ناهباً لثرواتها وطامعاً في أراضيها.
(المجهر) في الذكرى الـ(61) تقلب الأوراق وتسترجع الأحداث، وتجسد بعض المشاهدات.
مخاض عسير
لم يكن نيل الاستقلال من أيدي المستعمر أمراً يسيراً، بل كان مخاضاً عسيراً شاركت فيه جميع القوى السياسية بمختلف ألوانها وتوجهاتها الحزبية والطائفية والعقائدية، وكتبت الحركات الوطنية على صفحات تاريخ المقاومة الناصع حروف من نور جسدت مناورات ومعارك مستميتة من أجل نيل الحرية قتل فيها من قتل وأسر من أسر، وكذا أندية الخريجين ومؤتمر الخريجين العام الذي غلبت عليه الصبغة السياسية لتخرج مذكرته الشهيرة تطالب برحيل المستعمر الذي أعطى لنفسه كافة الحقوق لإدارة شؤون البلاد عبر اتفاقية الحكم الثنائي التي وقعتها الحكومة المصرية مع إنجلترا في 19 يناير 1899م، في ظل الاحتلال البريطاني لمصر.
بالرغم من أن تلك الاتفاقية كانت استعماراً مصرياً بريطانياً للسودان إلا أن المتمعن في الأمر يجد أن مصر كانت محتلة ولا تملك من أمرها شيئاً، وظهر هذا جلياً عندما أمرت بريطانيا بإخراج الجيش المصري من السودان عقب اغتيال “السير لي ستاك” حاكم عام السودان والذي كان مقتله بداية أزمة حقيقية بين البلدين، وقد زاد الوضع تعقيداً عندما تضامن عدد من الضباط السودانيين مع المصريين واندلعت في البلاد ثورة 24 نوفمبر، إلا أنه تم إخماد الثورة وقتل قادتها لتدلل هذه الأزمة في أعقاب ثورة 24 نوفمبر، على أن الوجود المصري بالسودان لم يكن استعماراً مصرياً، بل احتلالاً بريطانياً للسودان.
بداية ثورات النضال
عقب ثورة “القوة السودانية” التي كانت بقيادة “عبد الفضيل الماظ” عام 1924م، اشتعلت ثورة أخرى داخل سجن كوبر، احتل سجناء طلبة الكلية الحربية وسجناء اللواء الأبيض، السجن لمدة تسعة أيام، تعبيراً منهم على سخطهم على الأوضاع التي تعيشها البلاد، إلا أن الحكومة استطاعت السيطرة على الموقف داخل السجن، وضاعفت العقوبات على عدد كبير من المعتقلين من طلبة الكلية الحربية واللواء الأبيض، وأنزلت عليهم عقوبات بدنية قاسية، وبذل الإنجليز جهداً واسعاً في الضغط على الطبقة المتعلمة، التي كانت تستوعبها مكاتب الحكومة آنذاك وفرضت عليها الرقابة الصارمة، ولم يجد المثقفون في هذا الجو الخانق غير أن ينشئوا جمعيات أدبية داخل الأندية أو في المنازل كحلقات للقراءة يستعرضون فيها ألواناً من البحوث الأدبية والاجتماعية، وكان أشهرها، (نادي الخريجين) بمدني حيث، ظلت الجمعية تنمو وتزدهر وصارت تخرج مرة كل شهر بليلة أدبية عامة ينتظرها الجميع في شغف لما يثار فيها من نقاش رفيع.
بينما كانت الجمعية تزاول نشاطها المألوف، فوجئ السودانيين بمعاهد 1936م، بين إنجلترا ومصر، دون أن ينظر فيها إلى وجهة نظر السودانيين، الذين كان نصيبهم في تلك المعاهدة نصاً مبهماً بإعطاء الأولوية في الوظائف لمن توفرت فيهم الكفاءات. من هذا المنطلق أخذ أعضاء الجمعية يبحثون الموقف وصار موضوع بحثهم الجديد هو(واجبنا بعد المعاهدة)، ومن هنا انبثقت فكرة تكوين مؤتمر أو نقابة يكون مركزها لجنة النادي بـ (أم درمان) وتكون فروعها في الأقاليم من أجل تحديد الواجب السياسي، وانتقل المؤمنون من الخريجين بالفكرة إلى دار نادي الخريجين بـ (أم درمان) الذي كان كبار الخريجين قد انصرفوا عنه إثر الخلافات الكثيرة التي مرت بهم إلا بعضاً من الخريجين بقيادة “إسماعيل الأزهري” ظلوا به يزاولون نشاطهم المحدود، ولم يتقبل قادة النادي الفكرة ولم يتحمسوا لها إلا أن الخريجين من الجمعية الأدبية بمدني ظلوا يلاحقون فكرتهم في العاصمة وكانوا ينتهزون عطلة الأسبوع للاجتماع بإخوانهم الذين آمنوا بالفكرة وظلوا يرسمون الخطط ويتصلون بكبار الخريجين في منازلهم ويدفعوهم دفعاً للعمل لتحقيق المؤتمر.
مولد مؤتمر الخريجين
في عام 1938م، استقبلت البلاد مولد مؤتمر الخريجين بفرح وهي تأمل أن يقود سفينة البلاد صفوة من المثقفين، أما الإنجليز فيبدوا أنهم كانوا ينظرون إليه في حذر، ولم يقاوموه، بل يمكن القول إنهم رأوا فيه بارقة أمل في قيام حركة سودانية خالصة بعيداً عن مصر.
كان عام 1942م، فاصلاً في عهد المؤتمر، فبينما الحرب العالمية الثانية تدور رحاها وقوة دفاع السودان تحارب مع الجيش الثامن، دار بأذهان السودانيين أن أبسط ما يمكن أن يقدمه الإنجليز للسودان وعداً صريحاً مسجلاً بحقهم في تقرير مصيرهم بعد نهاية الحرب، ومن هنا بدأت قصة مذكرة الخريجين المعروفة، الصادرة في يوم 3 أبريل 1942م، والتي تضمنت أول مطالب سياسية، تمثلت في أن يتم إصدار تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان حق تقرير المصير مباشرة عقب الحرب، وإحاطة ذلك الحق بكل الضمانات التي تكفل حرية التعبير حرية تامة، كما تكفل للسودانيين الحق في تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني، أيضاً تضمنت المذكرة تأسيس هيئة تمثيلية لإقرار الميزانية، وتأسيس مجلس أعلى للتعليم أغلبيته من السودانيين وتخصيص ما لا يقل عن (12%) من الميزانية للتعليم، كما يتم فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية وإلغاء قانون المناطق المقفولة إلى جانب قصر الوظائف على السودانيين، أما المناصب التي تستدعي الضرورة ملؤها بغير السودانيين، فتملأ بعقود محدودة الأجل يتدرب أثنائها سودانيين لملئها نهاية العام، ووقف الإعانات لمدارس الإرساليات وتوحيد برامج التعليم في الشمال والجنوب. وهو الأمر الذي لم يتقبله الحاكم العام الذي توعد بسحب الثقة من المؤتمر ووصفه بعدم أحقيته في التحدث باسم البلاد.
ائتلاف الأحزاب
برفض الحاكم العام لمطالب مذكرة الخريجين اتسعت شقة الخلاف بين الحركة الوطنية وبين المستعمر، وظل المؤتمر رغم ما أخذ يدور في صفوفه من نشاط طائفي عرضه لكثير من الخلافات الداخلية، يحمل اللواء لإنارة الشعب وقيادته، ولكن ما كادت الأحزاب تظهر في الوجود عام 1943م، حتى طغى النشاط السياسي الحزبي على كل شيء فقد انقسم السودانيون إلى استقلاليين يريدون الاستقلال عن مصر والانضمام إلى دول التاج البريطاني، وإلى اتحاديين يريدون وحدة وادي النيل ودولة واحدة تحت التاج المصري، وبما أن السودان قد اقتسمته الطائفية منذ أمد بعيد فقد سارعت ـ أي الطائفية ـ لتشارك في الوضع الجديد فقامت طائفة الأنصار برئاسة السيد “عبد الرحمن المهدي” باحتضان الأحزاب الاستقلالية وعلى رأسها حزب الأمة، وقامت طائفة الختمية بزعامة السيد “علي الميرغني” باحتضان الأحزاب الاتحادية وعلى رأسها حزب الأشقاء (بعد اندماجه في حزب الشعب الديمقراطي ليصبح، الوطني الاتحادي)، ثم الحزب الاتحادي الديمقراطي. كما تنازعت مصر وبريطانيا هذه الأحزاب وبقوة وأخذت كل واحدة منهما تدعم من تراه يوافق مصالحها ويقترب من سياساتها.
في الثلث الأخير من شهر أكتوبر 1952م، انتقل مركز النشاط السياسي من الخرطوم إلي القاهرة، واجتمع قادة الأحزاب الاستقلالية والاتحادية بقادة الثورة هناك للوصول إلى اتفاق شامل يحقق تحرير البلاد، وتكون وفد المباحثات مع الجانب المصري وعقدوا اجتماعاً تمهيدياً بالرئيس “محمد نجيب”، وبعد جهود ضخمة من الاجتماعات، توجت باتفاق بين حزب الأمة والاستقلاليين أولاً وبين مصر ثانياً، ثم بتكوين الحزب الواحد انتقل نشاط الأحزاب للسودان، حيث دخلوا معركة الانتخابات على النحو المعروف، وأصدرت الأحزاب الوثيقة التاريخية لاتفاقهم في يناير 1953م، التي نصت على عدد من المطالب، إما أن تتحقق أو المقاطعة القومية، وتمثلت أهم هذه المطالب في (السودنة ـ الانتخابات ـ جلاء الجيوش الأجنبية)، وفي أول عيد للاتفاقية وائتلافية الأحزاب، شهدت البلاد احتفالات بهذا الحدث الذي جمع زعيمي أكبر حزبين وهما السيد “علي الميرغني” والسيد “عبد الرحمن المهدي” ومنح السودان الحكم الذاتي الكامل وأعطته حق تقرير المصير. وعلى الرغم من اتفاق الأحزاب وقيام أول برلمان وحكومة سودانية، إلا أن الأجواء السياسية حينها كانت ملبدة بالغيوم الكثيفة، وسط حالة من عدم الوفاق السياسي تكاد أن تطيح بالاستقلال جانباً. فالأحزاب تتنازع فيما بينها على ضرورة قيام حكومة قومية، والأزهري يقدم استقالته بعد أن هزم البرلمان حكومته في اقتراح القراءة الثانية للميزانية بفارق الأصوات، الأحزاب المؤتلفة ترفض رئاسة “الأزهري” للحكومة القومية. أيادي خفية تعبث بعقول الجنوبيين وتدعو للثورة على الحكم الوطني ووحدة السودان والحكومة تتسلم وثائق تدل على ذلك.
تجاوز خلافات الأحزاب
هذا الجو من الخلافات والصراع على السلطة، لم يقف حائلاً أمام كلمة السياسيين التي توحدت بضرورة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، ورغم حرص الحكومة على أغلبية مقاعدها في الحكم، إلا أن آخر الاجتماعات التي عقدت بينها وبين المعارضة قبيل إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، في الثاني عشر من ديسمبر 1955م، استطاع أن يزلل الكثير من العقبات التي كانت تعترض تفاهم الأحزاب حول الأهداف الرئيسة. فقد كان مطلب الحكومة لقبول حكومة قومية هو إعلان البرلمان لاستقلال السودان، وهو الأمر الذي وافقت عليه المعارضة، شريطة أن تحضر اللجنة الدولية العليا لتقرير المصير وتباشر مهامها المنصوص عليها في الاتفاقية الخاصة بتسليم سلطة القيادة العليا للقوات السودانية من الحاكم العام وتهيئة الجو الحر المحايد، بالإضافة إلى قيام الجمعية التأسيسية لوضع دستور البلاد المقبل، وفي صباح يوم (الاثنين) (19/ 12/ 1955م)، كان السودانيون بمختلف طبقاتهم وسحنتاهم وانتماءاتهم السياسية، على موعد مع تاريخ فاصل في حياتهم، يطوون عبره حقبة طويلة من الاستعمار، عندما بدأت في العاشرة والنصف صباحاً، وقائع الجلسة التاريخية التي شهدت إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، عندما قدمه السيد “عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة” من جانب المعارضة نائب بقارة نيالا غرب – الدائرة 53-، مقترحاً أثنى عليه السيد “مشاور جمعة سهل” من جانب الحكومة، وفي الساعة الحادية عشر والربع صباحاً، طرح رئيس البرلمان” بابكر عوض الله” الاقتراح للمداولة، فأجيز بالإجماع.
انتخاب مجلس السيادة
وفي صباح اليوم الأول من يناير عام 1956م، تم إعلان استقلال السودان بعد انتخاب أعضاء مجلس السيادة، وأعلنت دولتَيْ الحكم الثنائي اعترافهما باستقلال السودان، وتم هذا الإعلان بواسطة المستر “سلوبن لويد” وزير الخارجية البريطاني.