وداعاً "بوث"
الزيارة الحالية للمبعوث الأمريكي “دونالد بوث” للسودان تمثل زيارة (مودع) لمنصبه.. لذلك ألقى نظرة على المتحف القومي.. وزار جبال النوبة.. وعقد لقاءات مع بعض الناشطين السياسيين ومع كبار المسؤولين في الدولة.. قبل أن يغادر الخرطوم نهائياً بانقضاء مهمته التي انتدب لها من قبل الإدارة الأمريكية السابقة.. وفشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أي من الأهداف التي جاء من أجلها، وهي المساعدة في تقريب وجهات النظر بين الحكومة ومتمردي دارفور والمنطقتين من جهة أخرى.. والعمل على الحيلولة دون تصاعد النزاع بين دولتي السودان وجنوب السودان والمهمة الأخيرة تتعلق بالعلاقات بين الخرطوم وواشنطون.
وفشل المبعوث الأمريكي يعود لأسباب ليس من بينها كفاءته الشخصية ولا رغبته في تحقيق إنجاز يكتب في سيرته، لكن المناخ العالمي جعل الولايات المتحدة تضع النزاع في السودان كأولوية ثانوية مقدماً عليها مأزق (داعش) والأوضاع في العراق وليبيا وأوكرانيا والحرب العبثية بين حكومة الجنوب والمنشق د.”مشار”.
وفي زيارة الوداع الأخيرة للسودان أصغى لهتافات نسوة وأطفال في كادقلي طالبوا المبعوث “دونالد بوث” بالسلام في منطقة أنهكتها الحرب ومزقت أحشاءها الصراعات وتفتقت عبقرية أهل كادقلي بأنشودة يرددها الأطفال وترددها النساء أمام الزائرين (كفانا حرب دايرين السلام)، إلا أن الوصول للسلام في المنطقتين أصبح بعيداً جداً.. وإن لم نقل من المستحيلات في الوقت الراهن. وحتى المبعوث الأفريقي “أمبيكي” أصابه اليأس والإحباط ولم يعد مهتماً بالمبادرة التي أطلقها القادة الأفارقة منذ سنوات، ووجدت دعماً معنوياً من الأمم المتحدة والولايات المتحدة، والدعم المعنوي لا يحقق وحده سلاماً بين فرقاء تراكمت الخلافات بينهم حتى (غدت كراهية)، وبغضاً شديداً فأنسدت دروب التواصل وتقطعت خيوطه .. والمبعوث الأمريكي “دونالد بوث” دبلوماسي حاذق لمهنته تراكمت لديه معارف بالقضية السودانية، كانت تؤهله للقيام بدور كبير في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، ولكنه أهدر الفرص تباعاً بسبب الدبلوماسية الأمريكية الناعمة مع المتعنتين من قادة الحركات المسلحة الذين يخطئون التقدير السياسي بمحاولة فرض أجندة خارج جغرافية المنطقتين ودارفور الطرف الآخر.. والولايات المتحدة ممثلة في مبعوثها “بوث” غير مهتمة كثيراً بقضايا جدلية مثل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.. والحريات الصحافية وأوضاع حقوق الإنسان. وقد عبَّر “بوث” أكثر من مرة عن تفهمه للأسباب التي تدفع الحكومة لاتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة الأطراف المعارضة بحسبان أن كل القارة الأفريقية والمنطقة العربية تشهد خروقات مماثلة لحقوق الإنسان وحرية التعبير، كما في السودان، ولكنه يضع الأولوية لوقف الحرب دون أن يعمل بجدية لها، مثل المبعوث السابق “القس دانفورث” الذي بفضل جهوده وقعت اتفاقية السلام الشامل 2005م، وحققت سلاماً لعدة سنوات قبل أن تعود الحرب مرة أخرى وينفصل الجنوب.. ولأن النخب السياسية لا تثق في الولايات المتحدة وتعتبر تدخلاتها في الشأن السوداني قد عمقت الأزمة، فقد رفض اثنان من كبار الصحافيين في بلادنا مقابلة المبعوث الأمريكي بعد الإجراءات التي اتخذت بحق صحفهم وقنواتهم.. فقد رفض “بكري المدني” رئيس تحرير الزميلة (الوطن) مقابلة المبعوث الأمريكي، وكذلك الأستاذ “حسين خوجلي”.. وفي ذلك رسالة بالغة الوضوح للإدارة الأمريكية بأن النخب والقيادات لا تثق في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ذلك درس في غاية البلاغة لمن يأتي بعد المبعوث “دونالد بوث” الذي لم يتبق له إلا أيام وينصرف عن مهمة انتدبه إليها رئيس انتهى أجله في السلطة، وجاء “ترامب”، ننتظر كيف يفكر في الشأن السوداني؟ وهل يستمر في نهج ابتعاث الدبلوماسيين والذي فشل في تحقيق أهدافه؟.