(عنقالة) في بلاط صاحبة الجلالة..!
بعد.. ومسافة
مصطفى أبو العزائم
صديقنا الباحث والمؤرخ الأستاذ “عبد الغفار المبارك” له أرشيف خاص، ومعلومات قل أن تتوفر لشخص، فحصيلته من المعلومات وحجمها يقارب بل يفوق في أحيان كثيرة حصيلة وحجم بعض مراكز البحوث والمعلومات المتخصصة، وقد توفر له ذلك من خلال التحاقه وهو في شرخ شبابه بالأجهزة المتخصصة والمختصة، عبر هواية يمارسها منذ زمن بعيد وهي الاحتفاظ ببعض ما ينشر في الصحف السياسية على مختلف عهود الحكم في بلادنا، لذلك تجده هو نفسه (دار وثائق) خاصة، يتوفر له ما لا يتوفر لكثيرين.
تلك المقدمة كانت لازمة لأن صديقنا “عبد الغفار” امتنع منذ فترة عن قراءة الصحف، وأصبح له فيها رأي سالب، ويرى أن أكثر ما تنشره الصحافة لا يرقى للمستوى الذي يسعى وراءه الشخص أو الباحث عن المعرفة، لكن المفاجأة كانت بالأمس عندما اتصل علي وقال بالحرف الواحد (كنت مقاطع الجرايد سنين.. لكن من قبل كم يوم قريت عمودك في (المجهر) وعمود “الهندي” ولقيت أني لازم أرجع عن قراري وأقرأ على الأقل (المجهر) بانتظام اعتباراً من اليوم داك.
أشاد صديقنا الباحث والمؤرخ الأستاذ “عبد الغفار المبارك” بما كتبناه عن كتاب “جعفر نميري” الذي وضعه الأستاذ “عبدون نصر عبدون” بل اتصل عليه وتواصل معه وأشاد بعدد من الأعمدة، وقال إن عمق وقوة المضمون بأن يحاول نفسه أن يكتب للصحافة، وقد سعدت لذلك لأن القارئ السوداني سيكسب كثيراً إن كتب “عبد الغفار المبارك”.
قضية الصحافة وانصراف البعض عنها، كانت مدخلاً لحوار طويل مع الأستاذ “عبد الغفار” وقلت له إن حدث ذلك للبعض فأسبابه أن الصحافة لم تعد هي مصدر الخبر، فالأخبار متاحة ولا سرية حولها ولا حواجز ولا أسوار، فالمعلومات (على قفا من يشيل) كما يقول أهلنا في مصر الشقيقة، ثم أن الأعمدة الصحفية التي لا تحمل عمقاً أو معلومة جديدة أو تحليلاً لحدث أو قضية ما، وتقف عند حدود إبداء الرأي فقط، فهذه أعمدة حكم عليها كُتابها بالفناء التدريجي، لأن القارئ نفسه صاحب رأي، وإذا أراد الكاتب أن يكتب رأيه لا بد أن يسنده بالمعلومات والمنطق، وطرح البدائل في حالة الاختلاف السياسي أو الاعتراض على السياسات الاقتصادية والعامة، لكن ما زالت للصحافة أدوار أخرى في نشر التقارير (المخدومة) ومحاولة التعرف على ما وراء الخبر، والحصول على الجديد الذي لا يتاح إلا للمحرر صاحب الشبكة الواسعة من المعلومات.
وقلت لصديقنا الأستاذ “عبد الغفار” إن مشكلة الصحافة السودانية الآن في بعض ناشريها، الذين دخلوا لهذا العالم السحري الجاذب بحثاً عن الأضواء والشهرة، أو سعياً وراء حماية إمبراطورياتهم الاقتصادية، أو تثبيتاً لإقدامهم في خشبة المسرح السياسي (الزلقة) وهؤلاء موجودون للأسف الشديد في بلاط صاحبة الجلالة، وقد أثر بعضهم تأثيراً سالباً على هذا العالم، وكنت ولا زلت – أسميهم بـ(العنقالة) أي أولئك الذين يتدافعون في دنيا لا علاقة لهم بها، ويتدخلون، ويسقطون التجارب الناجحة، وبعضهم يرى أن هذه المهنة (حاجة ساهلة) وأن أي (عرضحالجي) يمكن أن يقوم بها، رغم أنها مهنة تقوم على النظريات العامة، خاصة في ما يتصل بالحريات وتقوم على القواعد الخاصة بالنشر، وتقف على ساقي المسؤولية والأمانة. ولكن كما نقول في أمثالنا سائلين ومتحسرين (مين يقرأ.. ومين يسمع)!!
قبل فترة طويلة فتحنا نحن مجموعة من زملاء المهنة هذا الموضوع وأشرت إلى قضية (العنقالة) في بلاط صاحبة الجلالة، فضحك الزملاء بعد أن أعجبهم التشبيه والربط، حتى أن زميلنا الأستاذ “محمد عبد القادر” (ود الناظر) رئيس تحرير (الرأي العام) الغراء طلب إلي كتابة هذا الموضوع في صحيفته، ولم أكن وقتها قد اخترت نهراً أدفع فيه مركبي بعد.. شكرته وقتها، لكنني كنت قد دفعت بالمركب في مياه (المجهر السياسي) التي جذبت إليها صديقاً وقارئاً محترماً وباحثاً ضخماً في حجم وقدر الأستاذ “عبد الغفار المبارك”.