بعد.. ومسافة
تركيا.. ولا كلمة..!
مصطفى أبوالعزائم
إنها أطول ليلة يعيشها مئات الملايين في العالم والمنطقة الإسلامية والعربية وتركيا، ليلة مقدارها ألف ليلة وليلة من التوتر والقلق عاشها الناس في العالم ونحن من بينهم.. وهي ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيات لتقويض سلطة الرئيس “رجب طيب أردوغان” ودفن التجربة الديمقراطية حية في جبال الأناضول، وحرق متعلقاتها ونثرها على مياه البحر الأبيض ومياه خليجي البسفور والدردنيل.
لن نستطيع الحكم الآن على تلك المحاولة ومن الذي كان وراءها، ومن الذي قام بالتمويل والتخطيط، لأن ذلك لا يظهر لنا الآن، ولن يظهر إلا من بعد تحقيق دقيق وتحرٍ عميق، حتى وإن طالت الاتهامات التنظيم الموازي للحركة الإسلامية الحاكمة، التي يمثلها حزب العدالة والتنمية، لأن هذا إن حدث فإنما يعني (مفاصلة) تركية لن تكون في صالح الديمقراطية، ولن تكون في صالح تجربة حكم الأحزاب الإسلامية التي يرفضها القريب والغريب والبعيد، والتجارب كثيرة.
اتهام التنظيم الموازي يعني اتهام “محمد فتح الله غولان” – تنطق أيضاً كولن – المولود عام 1941م، في أرض روم بتركيا، اتهامه بتصعيد الخلاف بين ما يسمى بالإسلام السياسي الذي يعتبر “نجم الدين أربكان” الأب الروحي له، وبين ما يسمى بالإسلام الاجتماعي الذي يعتبر فتح الله كولن” أباً له، والذي تمثله (حركة كولون) التي يعتبرها الغرب هي الحركة الأنموذج التي يجب أن تحتذى، لأنه ينادي بضرورة التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بحسبانها قوى عالمية ماثلة للعيان بعكس “أربكان” الذي يراهما عدواً للعالم الإسلامي بسبب تحكم الصهيونية العالمية في صنع القرارات هناك.
وهناك اختلاف آخر، هو أن “أربكان” كان يرى ضرورة وحدة العالم الإسلامي، وبلور ذلك في تأسيسه لمجموعة الثماني الإسلامية، بعكس “كولون” الذي لم يكن ينظر إلى العالم العربي وإيران بوصفهما مجالاً حيوياً لتركيا.
لا نستطيع الآن أن نطلق نار الاتهامات جزافاً قبل أن يكتمل التحقيق، لكن ذلك لا يمنعنا من أن نستنتج من كان وراء الحدث!.
ظللت ومجموعة من الزملاء أعضاء أحد (القروبات) من سياسيين ومفكرين وأهل صحافة وإعلام وقادة أحزاب، ظللنا نتواصل طوال تلك الليلة التركية، وكان الكل يدلي برأيه ويحلل الأوضاع وفق رؤيته ومعرفته بالواقع في الشرق الأوسط والمنطقة العربية مع حساسية العالم من الإسلام الذي مشى “أردوغان” في طريقه ليؤسس على قواعده تركيا الحديثة، بعد أن تم تغييبه عن دستورها وحياة مواطنيها منذ الانقلاب على الاستانة وتولي “مصطفى كمال أتاتورك” مقاليد الأمور بعد عملية (إفناء) مقصودة للدولة العثمانية.
من أعضاء تلك المجموعة (صحافيون) أهل يسار، وأهل يمين وأهل وسط، منهم من يمثل الشيوعية السودانية والبعث العربي الاشتراكي والناصريين، والمؤتمر السوداني، ومنهم من يمثل الحركة الإسلامية ومكوناتها السياسية من مؤتمرين (وطني وشعبي) وهناك بعض المستقلين، باختصار هم جماعة تختلف مشاربهم الفكرية، العقدية، لكنهم جميعاً أدانوا الانقلاب، وكانوا مع الشرعية التي جاءت عبر صناديق الاقتراع.. وهذا هو ذات موقف القوى السياسية في تركيا، فقد حدث إجماع تام على رفض الانقلاب وخرج الشعب التركي – كله – ليواجه دبابات الانقلابيين حتى هزمهم، بينما بعض أنظمتنا وحكامنا في المنطقة يوجهون دباباتهم في مواجهة شعوبهم.
بيان الانقلابيين جاء تحريضياً يحمل إدانات لنظام “أردوغان” لكن الشعب التركي لم يصدق كلمة مما جاء في ذلك البيان – ولا كلمة واحدة – بل خرج كله منتصراً للديمقراطية، التي تعتبر تركيا الآن إحدى واحاتها القليلة النادرة في صحراء وفضاءات المنطقة والإقليم.
أنظمة كثيرة لا تريد التجربة التركية، وقوى عالمية كبرى لا تريد لتركيا أن تكون كما يريد لها حكامها الآن أن تكون.. وإسرائيل أيضاً.