عودة انتخاب الولاة.. أولى ثمرات الحوار الوطني
هل يسند “البشير” لنائبه السابق “علي عثمان” مهمة الوسيط بين الفرقاء الجنوبيين؟؟
التعيين يجرد الفيدرالية من حسناتها ويجعل المركز قابضاً على أنفاس الولايات
حديث السبت
يوسف عبد المنان
اعترفت الولايات المتحدة والدول الغربية بأهمية دور السودان في ثلاث قضايا تؤرق مضجع العالم.. الأولى الحرب بين الفرقاء الجنوبيين التي بدأت سياسية وانتهت إلى حرب عرقية طائفية.. والثانية قضية الهجرة غير الشرعية من مناطق بؤر النزاعات والجفاف والدكتاتوريات في أفريقيا إلى أوروبا عبر البحر.. والقضية الثالثة هي النزاع حول مياه النيل بين دولتي مصر وإثيوبيا.. عطفاً على الملف الرابع وهو مكافحة الإرهاب، لكن الغرب أدرك أن السودان نفسه ضحية الأعمال الإرهابية وليس صانعاً له، أو حاضنة تأوي الإرهابيين.. وبالأمس كانت الأراضي السودانية من خلال مطار الخرطوم تستقبل مئات الموظفين الصينيين بعد إجلائهم من جوبا، وحثت الولايات المتحدة الأمريكية الخرطوم للعب دور في إنهاء النزاع الحالي الذي وضع الجنوب على شفا الانهيار التام بعد المعارك التي دارت الأسبوع الماضي بين شركاء السلطة “سلفا كير” ونائبه الأول د.”رياك مشار”.. وحسناً أقدم الرئيس “البشير” على الاتصال بطرفي الأزمة، وكلاهما أي “سلفاكير” و”رياك مشار” يحتفظان بعلاقة ود واحترام وتقدير لدور الرئيس “البشير” في انفصال جنوب السودان بقبوله أولاً بحق تقرير المصير عام 1994م، وتوقيعه على إعلان مبادئ الـ(إيقاد) الذي فتح الباب واسعاً للانفصال، ثم بعد ذلك اعتراف الرئيس “البشير” بنتيجة الاستفتاء وهو شرط وجوب للمضي نحو إجراءات الانفصال.. وحتى الفرقاء المقاتلين من الضباط والجنود كان أغلبهم من عناصر ومكونات القوات المسلحة القومية.. وبعد الانفصال ذهبوا وفق إجراءات اتفق عليها الطرفان يشكلون جزءاً مهماً من القوات الجنوبية المقاتلة اليوم، بينما احتفظ الجنوب بالمكون الشمالي في الجيش الشعبي ليصبح فيما بعد (خميرة) أنجبت التمرد الحالي في المنطقتين الذي صنعته حكومة الجنوب أو بعض المتنفذين فيها.
ولم يرفض “سلفاكير” أو د.”مشار” وساطة الرئيس “البشير” التي بدأت بالاتصالات الهاتفية أثناء خوض الطرفين غمار المعارك داخل مدينة جوبا.. وحتى تثمر وساطة السودان وتضع الحرب أوزارها ويستقر الجنوب الذي يشكل استقراره ضمانة لاستقرار المنطقة والسودان بصفة خاصة، فإن مبادرة الرئيس “البشير” تتطلب الدفع بشخصية سياسية تجد القبول عند الجنوبيين والاحترام في المنطقة ولها خبرة في التفاوض.. وهنا تبرز شخصية الأستاذ “علي عثمان محمد طه” النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية الذي يحترمه الجنوبيون ويقدرون له صبره على سنوات التفاوض وتنازلاته الكبيرة حتى تم توقيع اتفاق السلام.. وشخصية مثل “علي عثمان” مهما حدثت خلافات في الداخل فإن الاستثمار في علاقاته وقدراته وإمكانياته هو استثمار لصالح السودان والمنطقة من أجل السلام في الجنوب، وهو يحظى بثقة الرئيس “البشير” ومنذ مغادرته القصر لم تصدر منه إشارات أو أقوال تنال من الرئيس، لأن حديث (الحاوي) قد نفاه “علي عثمان” أو تراجع عنه، وتلك فضيلة وقيمة مهمة جداً.. وإذا كتب للمبادرة السودانية النجاح واستطاع “علي عثمان” إحداث اختراق في جدار الأزمة، فإنه لن يحقق هذا النجاح لشخصه بقدر ما هو نجاح للسودان.. والدول الكبيرة هي التي تستثمر في علاقات المسؤولين السابقين وتستفيد من خبراتهم.. وقد استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية من رؤسائها السابقين “جورج بوش” و”رونالد ريجان” وحتى المبعوثين مثل “جون دانفورث” هم خبرات أمريكية تم توظيفها لصالح الدولة.. وتكليف الرئيس “البشير” لنائبه الأول السابق “علي عثمان محمد طه” بقيادة المبادرة السودانية خطوة عملية تنفي وجود صراع داخل قيادة الدولة، ولا يزال “عثمان” عضواً في أعلى سلطة بحزب المؤتمر الوطني وعضواً بالبرلمان وقادراً على فعل الكثير.
وفي ذات الوقت يجب أن يتحلى السودانيون بقدر من المسؤولية وسمو الأخلاق والنأي عن المقولات السالبة بحق (أخوتهم) من الجنوبيين.. الذين هم جزء منا.. نتألم لرؤية نساء الجنوب يفترشن الأرض ويذرفن الدموع في موسم الخريف وقد فشلت أمطار الاستوائية في غسل بقع الدم عن شوارع جوبا.. والشماتة على الجنوب والجنوبيين فعل وسلوك لا يليق بإنسان له قيم وأخلاق ودين إسلامي يحض على إغاثة الملهوف وإطعام الجائع وكساء العاري.. لكن ما يكتب في بعض الصحف من تعبيرات (شامتة) على الجنوب (بمثابة الضحك في بيت العزاء) وفي ذلك جرح دامٍ لذوي المفقود وسلوك لا يشبه السودانيين.. وإذا كان الجنوب قد اختار الانفصال وفشلت النخب التي قادته في تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي، فإن ذلك لا يشكل مدعاة للشماتة ولا حتى الحديث عن عودة الوحدة في مثل هذه الظروف، والسودان اختار من قبل بمحض إرادته الانفصال عن مصر بانقلاب سياسي لقادة تيار وحدة وادي النيل ووقفتهم مع التيار الاستقلالي غداة بدء إجراءات الاستقلال من داخل البرلمان، لم ترفض مصر خيار السودانيين ولم تشمت الأقلام المصرية في الخرطوم التي خاضت حرباً في الجنوب منذ الاستقلال لم تتوقف إلا عام 1972م، مثلما يخوض الجنوب اليوم حرباً داخلية، ومن قبل خاضت إريتريا المستقلة عن إثيوبيا حرباً حدودية استنزفت قدرات وإمكانيات البلدين، لذلك الحرب التي اندلعت الآن في الجنوب هي حرب طبيعية، في ظل دولة تسيطر عليها الطائفية القبلية وهي في تعريف العلوم السياسية دولة مريضة قد تواجه الموت في أية لحظة، مثلما حدث الأسبوع الماضي بين الرئيس ونائبه.. لذلك تمثل مبادرة الرئيس في إطار الـ(إيقاد) فرصة لعودة السودان للعب دور مهم في المنطقة مثلما حدث في قضية سد النهضة الإثيوبي، حيث كان لجهود السودان الأثر البالغ في تخفيف حدة التوتر بين مصر وإثيوبيا بعد أن اقترب التوتر من التحور إلى حرب في المنطقة. ومن مشروطات نجاح مبادرة الرئيس “البشير” أن يكلف شخصية مثل “علي عثمان محمد طه” بهذه المهمة، وإعادة إحياء مبادرات لشخصيات مثل “أبيل ألير” و”فرانسيس دينق” و”بونا ملوال” و”كوستيلو قرنق” لإنقاذ جنوب السودان من شفا الحرب العرقية التي تلوح في الأفق.. وهي من أنواع الحروب (المريرة) مثل الحرب العقائدية.
{ هل يعود النظام الفيدرالي؟
أيام معدودة وتنعقد الجمعية العمومية للحوار الوطني في الأسبوع الأول من شهر أغسطس القادم بناء على وعد وإعلان الرئيس في الشهر الماضي، وذلك لإجازة مقررات الحوار الوطني التي يعول عليها في الخروج بالبلاد من أزماتها التي تعيشها منذ سنوات طويلة.. وإذا كان الحوار الوطني قد رفضت القوى التي تحمل السلاح وبعض العقائديين مثل الحزب الشيوعي وفصائل حزب البعث ولوج ساحته، فإن السقوفات التي تنازلت عنها الحكومة كفيلة بعودة أحزاب مثل المؤتمر الشعبي والإصلاح الآن وحزب منبر السلام العادل، وهؤلاء شروط مشاركتهم في الحكومة الانتقالية القادمة هي إطلاق حريات لهم لممارسة نشاطهم السياسي.. والعودة لتطبيق النظام الفيدرالي كاملاً.. وهذه القضية تشكل أهمية كبيرة ليس للأحزاب المعارضة فحسب، بل للمؤتمر الوطني نفسه، وقد تراجع عن مبدأ انتخاب الولاة في الصيف قبل الماضي وأعاد مركزة التعيين من الخرطوم بسبب فساد طريقة الاختيار التي خطها المؤتمر الوطني لنفسه.. بينما يبقى الحكم الفيدرالي هو الحل الأمثل لمشكلات البلاد.. ولهذا المطلب جذور عميقة في التاريخ السوداني، حيث طالب به القادة الجنوبيون الأوائل في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1964م، عند إعلان الاستقلال بالفيدرالية، وخرجت تظاهرات عاطفية هنا في مدن الشمال تندد بالفيدرالية، وعدّت جناية يحق للسلطة إيقاع العقوبة على من يطالب بها.. ولكن في ميثاق أهل السودان الذي طرحته الجبهة الإسلامية 1986م ورد نظام الحكم الفيدرالي، بيد أن ذلك الميثاق ذهب أبعد من ذلك حيث ألمح لإمكانية التخلص من الجنوب إذا كان يمثل عقبة تحول دون تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان.. وفي كل الاتفاقيات التي وقعتها الحكومة الحالية مع حاملي السلاح كانت تشير بوضوح لتطبيق النظام الفيدرالي باعتباره الحل الأمثل لمشكلات الأقاليم، خاصة بعد نشوب حرب دارفور.. بيد أن التطبيق يشكل عقبة كؤود، فالحكومة تريد نظاماً فيدرالياً شكلياً وتمتنع عن دفع ثمنه الحقيقي بالإصرار على فرض الوصاية المركزية أولاً، حتى داخل الحزب الحاكم هناك تدابير قسرية تجعل من عملية الاختيار للمرشحين لمنصب الوالي وأعضاء البرلمان القومي تخضع للقرار المركزي في البدء والمنتهى.. وحينما جرت اختيارات وليس انتخابات المرشحين لمنصب الوالي كان حق المؤتمر العام في الولاية اختيار ثلاثة مرشحين وليس مرشحاً وحيداً.. ومن بين هؤلاء المرشحين الثلاثة يختار المركز (المقاس) الذي يناسب كل ولاية.. بينما النظام الفيدرالي الحقيقي كما في كثير من بلدان العالم يختار المواطنون بحر إرادتهم الوالي دون وصاية من أحد، وبسبب ممارسات البيع والشراء والإغراءات والتكتلات القبلية والعنصرية التي كان قادتها نظاميون في ولاية واحدة هي جنوب دارفور، تم تعديل الدستور وإلغاء نتائج الاختيارات وليس الانتخابات، وعوضاً عن ذلك عين الرئيس ولاة للولايات.. فهل يعود للمواطنين من خلال مقررات الحوار الوطني حقهم في انتخاب ولاة أمرهم بحرية دون وصاية من المركز؟؟ أم يتم الالتفاف على تلك التوصية التي جاءت متفقاً عليها في لجنة الحكم والإدارة؟؟ وماذا تبقى من القرارات ذات القيمة السياسية إذا لم يعد للمواطن حق اختيار الوالي؟ أما داخل الأحزاب فلكل شيخ طريقته، وليس بالضرورة أن تتبع جميع الأحزاب منهج المؤتمر الوطني وممارساته.
وقد أثبتت التجربة الحالية أن الولاة المعينين من المركز ينصرف جهدهم في إرضاء واستمالة المركز الذي اختارهم للمنصب وبالتالي يفتقرون للولاء للجماهير التي يفترض أن يكونوا خادمين لها.. وقد تباعدت الشقة بين المواطنين والولاة حتى بلغت أن والياً مثل د.”خليل عبد الله” يموت أكثر من (15) مواطناً على بعد (35) كلم من فراشه ومرقده ولا يكلف نفسه عناء الوصول لموقع الأحداث إلا بعد مرور شهر على وقوعها، بينما ذات الوالي إذا بلغه طلب المركز حضوره لاجتماع أو حتى ورشة عن تربية الضأن والدواجن هرع مسرعاً وركب السهل من أجل المشاركة فيها حتى لا يكتب له في كتابه شيئاً يضر بمستقبله في الوظيفة.. وفي ولاية الخرطوم يتظاهر سكان حي القوز والرميلة بسبب العطش وقلة الماء، وحكومة الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” ترسل جنود الشرطة لتفريق المتظاهرين بدلاً عن أن تبعث إليهم بوزير البنى التحتية ومدير إدارة المياه لحل المشكلات التي أدت لجفاف الصنابير من المياه.. ولو كان والي غرب دارفور منتخباً من المواطنين لهرع مسرعاً لمحلية كرينك وقرية آزرني لتجفيف دموع الباكيات وبسط هيبة الدولة، والقبض على الجناة وإحقاق الحق، بل لو كان الوالي “محمد حامد البلة” منتخباً لما تم إعفائه بصورة مفاجئة ومن بعد ذلك حار صناع القرار في تعيين خليفة له.. والوالي الذي يحظى بثقة المواطنين أفضل للمركز من ولاة يفتقرون إلى السند الشعبي.. ويعدّون أنفسهم (معينين) مركزياً لا يحق حتى للمجالس التشريعية الولائية محاسبتهم على إخفاقاتهم مهما بلغت.. وبالطبع للتعيين إيجابيات أيضاً، ولكن سلبياته تطغى على الإيجابيات.
الدولة الإثيوبية التي نهضت الآن عمرانياً واقتصادياً وأصبحت نموذجاً للدولة الرشيدة، اتخذت لنفسها نظاماً سياسياً تعددياً ونظام حكم تتمتع فيه الأقاليم بالحكم الذاتي وليس الفيدرالي.. وقد استفادت إثيوبيا من تجربة انقسام إريتريا، ودرست تجربة القبضة المركزية التي من نتائجها المباشرة استقلال إريتريا وبروز أقاليم أخرى تطالب بالانفصال بعد الثورة، وكانت نظرة “ملس زناوي” العميقة وثقته في نفسه وفي شعبه هي أساس الاستقرار الذي تعيشه إثيوبيا التي تسمى بمتحف الشعوب والقوميات، ونص الدستور الإثيوبي على نظام حكم ذاتي للأقاليم تتمتع فيه بشبه استقلال عن المركز، بل منح الدستور الأقاليم حق الانفصال عن الدولة الأم إذا صوت (90%) من البرلمان المحلي لصالح الانفصال.. ومجرد أن أصبح الانفصال حقاً دستورياً توحدت الأقاليم ولم يطالب حتى نائب واحد من إقليم الأرومو أو التقراي أو الأمهرا بالانفصال، ولكن هل استفاد السودان من درس انفصال الجنوب بإطلاق مزيد من الحريات؟؟ أم مضى على خطى السودان القديم بفرض المركزية التي تمزق البلدان، وتباعد الخطى بين الأطراف المركز الذي يسعى في كل زمان ومكان لإشباع رغبته في السيطرة على الأقاليم أو الولايات؟؟ لذلك أمام مؤتمر الحوار الوطني من خلال اجتماع الجمعية العمومية في الخامس من أغسطس القادم فرصة تاريخية لإقرار التوصيات التي اتفق عليها كل المؤتمرين، ومن بينها تطبيق النظام الفيدرالي كاملاً غير منقوص وإعادة حق الولايات في اختيار ولاتها.