رحلتي مع.. المرض!
بسم الله الرحمن الرحيم
• هذا مرض لم يعد في الخباء أو تحت الغطاء!
• الطبيب الإنجليزي سألني: ترى هل فاجأتك؟
• أكبر استشاري أورام في السودان نصحني ما عندناش.. أنصحك بالسفر!
• في القاهرة: احتضنني من لم أندم على معرفتهم!
• عندما تحولنا في المركز الطبي العالمي إلى نادٍ..
• مضاعفات جانبية لجلسات العلاج الإشعاعي!
• لماذا لا نقيم – مركزاً علاجياً للسرطان؟
د. إبراهيم دقش
أستميح القراء عذراً مستحق، لأني سأروي قضية شخصية، في مظهرها عامة، وفي باطنها “عمومية “.. وفي تناولها “محاذير” تكمن في نوع المرض، فالناس لا يبالون ولا يهتمون وهم يحدثونك عن إصابتهم بالبلهارسيا والالتهاب الرئوي والملاريا والدسنتاريا، لكنهم يشفقون ويتشفعون للسماء عندما يصل الأمر إلى مرض العصر (الإيذر)، فيما المرض اللّعين (السرطان) يظل في الخباء وتحت الغطاء، فلا أحد يعترف بأنه ضحية ذلك المرض العضال.. حتى ظهر شجعان أصابهم فتغلبوا عليه بالصبر وبالدواء وبالاحتمال. ومنهم الراحل السفير “مصطفى مدني”، والسفير “أبو زيد الحسن”، والسفير “د. نور الدين ساتي” الذي كتب سفره القيم (عائد من مملكة السرطان)…
وبالنسبة لي كانت الإصابة مفاجأة في مستشفى (سباير) بمدينة “هاربنتون” خارج لندن في شهر مارس الماضي (2016)، حين سألني الإستشاري الطبيب: هل فاجأتك؟ فقلت له لا والله، لكنى أريد أن أعرف منك مصيري.. وعندها فقط شرح لي أمري بأني “مصاب” في منطقة محدودة واحتواؤها ممكن وعلاجها غير مستحيل غير أن المطلوب مني:
• تناول ثلاثين حبة.
• تناول حقنة هرمون بعد 15يوم على أن تتكرر كل 84 يوماً ولمدة عامين.
• الخضوع للعلاج بالإشعاع لمدة ستة أسابيع..
وما كان أمامي خيار.. وافقت على الخطة العلاجية عدا الثالثة التي تكلفتها فوق طاقتي في حدود30 – 60 ألف إسترليني.. فأعطوني خيارين: الأردن، مصر، جنوب أفريقيا وأمريكا. واخترت القاهرة لأسباب “فنية” تخصني.. وحين ودعت قراء عمود (عابر سبيل) بهذه الصحيفة قبل سفري الذي كنت أعرف سلفاً أنه سيطول لم يكن قصدي مطلقاً ما فهمه البعض، وإنما ركزت على العلاقة خوفاً من فتح باب الأقاويل والتأويل إن اختفيت فجأة.. وقد وجد وداعي ذلك تجاوباً من كثيرين من حقهم عليّ ألا أغمطهم حقوقهم، فقد أبدى بعضهم مشاعر فياضة بل وشهامة وربما عاطفة دفاقة، مثل “عبد الله كروم”، وهو رجل أعمال صديق قال لي بالحرف الواحد (ولا يهمك.. نحن جاهزون)، وأعرف أنه لا يبيع الكلام، ثم كان “طه محجوب” – تاجر اللساتك – الذي سبقت دموعه كلماته على الهاتف لأنه اعتبرني أودعه الوداع الأخير، وهناك الفريق “محمد أحمد علي” الذي بعث برسول لبادية كردفان لجلب علاج بلدي سلمني له يداً بيد، كما كان هناك الشاب “عادل حسن” كريماً إذ أتى بقارورة ماء زمزم باعتبار أنها لما شربت من أجله، وزاد على ذلك سفره إلى سنار وقراءة (يس) عليها من أجل الشفاء.. وجاءني “الشيخ يس أحمد” ليروي لي تجربته مع ذات المرض بثقة عجيبة، وترك لي أربعة أجزاء من كتاب (الحكم العطائية) لصاحبها ابن عطا ليؤنسني خلال فترة العلاج، وبعث لي الدكتور “عبد الحليم المتعافي” وصفة قرآنية أكد لي أنها أشفت شقيقته من حالة مماثلة.. وأوصلني “محمد يحيى الكوارتي” بصديق طيار له عاد من القاهرة معافى، فشرح لي ورسم لي لوحة “أمل” أضفة عليها ألقاً. رسالتا تعاطف (خاصتين) الأولى من الفريق ركن “بكرى حسن صالح” والثانية من الفريق أول “محمد عطا”.. وتبقى أهم رسالة الكترونية تلك التي بعت بها أصدقاء عمود (عابر سبيل) من المنطقة الصناعية بالخرطوم بزعامة (هريمي) كلها دعوات وأكف مرفوعة للسماء.. فكل هؤلاء طمأنوني بأنهم يريدونني بينهم وأعطوني الإحساس بأن (حياتي) كان لها معنى ومبنى في “الفانية”، وكان ذلك زاداً يكفي في تلك المرحلة الانتقالية.. وقد استوقفتني كتابة صديقي “دسوقي” في صحيفة (قوون) الذي أزعج كل أهلي ومعارفي وأصدقائي من منطلق محبة بإشهاره طبيعة مرضي حتى عمت القرى والحضر، واتفق معه أني سأقاوم وأصارع الداء خاصة بعد أن فاجأني مدير مكتب رئيس الجمهورية الفريق “طه عثمان” برسالة حملها بنفسه نقل لي فيها استفسار الأخ الرئيس المشير “عمر البشير” عن صحتي وتمنياته لي بالشفاء والعودة سالماً لأرض الوطن.. وذلك الجزء الإنساني – والله على ما أقول شهيد – أنساني المرض.. فالاتصالات والاستفسارات والمحادثات الهاتفية من عزاء كتر من كل أنحاء العالم كانت فوق تصوري، وأخص مولانا “محمد أبو زيد أحمد” بشكر خاص لكونه أقام لي ثلاث حلقات تلاوة في مدني، وزميلنا “محمد شيخ العرب” الذي (وزن) هاتفه على القاهرة ونافسه في ذلك الأخ “محمد الشيخ حسين”.. وفاجأني أفراد أسرتي الصغيرة (بوجودهم) إلى جانبي عند (الحارة)…
أما الجانب المهني الذي لا أريد إغفاله فيتعلق بالطبيب الإنسان “كمال حمد” مستشار العلاج الإشعاعي والكيميائي بالخرطوم الذي زرته في عيادته وعرضت عليه تقرير الطبيب الانجليزي ونتائج الفحوصات، فأبدى لي أسفه أن يتعرف عليّ في ظروف غير سارة، وقام بنفسه بإعطائي الحقنة الثانية في 19 مارس 2016 نظراً لحساسيتها وتكلفتها (400 دولار)، ونصحني بأنهم في السودان ليس بحوزتهم الجهاز ثلاثي الأبعاد الذي يفترض أن أخضع لثلاثين جلسة تحته، وتكرم بتحويلي لصديق وزميل له في القاهرة هو “شوقي الحداد”.. ولسوء حظي وجدته خارج بلاده..
وكأنما أراد الله أن يقيّض لي “التشافي” في الموقع المناسب.. فقد رويت – عرضاً – لمن أعرف في قاهرة المعز ومن أثق فيهم من أصدقاء الأمس سبب قدومي.. فتسابقوا على الاهتمام بأمري وقدموني لواحد من أشهر مستشاري (الأورام ) في مصر، الدكتور البروفيسور “ياسر محمد غانم”، الذي تولاني، وأعطاني رقم هاتفه الخاص ..
عند الكيلو 42
وهكذا سلمني أصدقائي القدامى من أهل مصر إلى حيث انتهى بي المطاف عندهم “مستشفياً”.. ووجدت نفسي في المركز الطبي العالمي عند الكيلو 42 بطريق الإسماعيلية الصحراوي.. وهو صرح تابع للقوات المسلحة المصرية على أحدث طراز، وبعناية طبية عالية المستوى، وبأجهزة غاية التطور التقني… ووجدت هناك رعاية لا توصف لأنها تبدأ بالعامل وتعبر للفني ثم للطبيب ومن بعده لأهل الشأن، وجميعهم نساء ورجالاً، منتهى الانضباط والأدب.
لم أصدق أن في معصمي ديباجة عليها اسمي ورسمي ورقمي وتاريخ ميلادي.. ودلفت إلى الصالة الخطأ، فنبهوني أن مكاني في القاعة الخاصة، التي وجدت فيها مرضى مثلى بصحبة ذويهم، وتوطدت بيننا العلاقة العارضة وكأنما أصبحنا أعضاء نادٍ واحد.. وأدلى كل واحد منا بما يعاني، وفيه المشترك والمتشابه، وكل تجربة توفر معلومة مفيدة.. فقد عرفت من رجل مسن أن العلاج بالإشعاع في ذلك المكان مضمون العواقب لأن الجهاز الذي يستخدمونه واحد من خمسة في العالم له ثلاثة أبعاد… ويتطوع آخر بأن الآثار الجانبية للعلاج بالإشعاع ضعيفة، وأعراضها كذا وكذا بنسبة ثلاثة في المائة، واكتشفت بعد الجلسة السابعة أني ضمن الثلاثة في المائة، ولما صارحت الطبيب الاستشاري “ياسر غانم” أفهمني أن ذلك طبيعي.. ولما عرضت عليه نتيجة كشف العظام سألني لماذا تأخرت في إحضار النتيجة من المعمل. ولم أخفي عنه أني كنت متوجساً، فضحك وقال لي في مثل “حالتك” المواجهة واجبة إن لم تكن مستحبة.. وحمدت الله أن المحصلة كانت (سلبية)، وبقى عليّ أن أواجه ما تبقى ..
واكتشفت أن هذا البني آدم أضعف خلق الله، وتأكد لي أنه إذا مسه الخير منوعاً، وإذا مسه الشر جذوعاً… وجذعي ليس (خوفاً) مما تترتب عليه (حالتي)، فذاك أمره عند خالق السموات والأرض، ولكن تحسباً من “الجانبيات” والفجائيات.. وظللت استسلم لذلك الجهاز ثلاثي الأبعاد يومياً وبصورة منتظمة لثلاثين (جلسة) كما يسمونها.. وطيلة تعرضي لإشعاعه الذي لا أراه بالعين المجردة كنت أردد وطيلة عشرين دقيقة (يا رحمن يا رحيم)، وفي آخر مرة سألني الفني: إنت بتقول إيه؟ فرددت عليه بأني إنما (أحادث) صاحب ذلك الجهاز، ويسألني بحب استطلاع واضح: هو إنت تعرفه؟ فأضحك وأقول له بأني إنما أعرف الذي خلقه ومن سخره.. وينتبه (أبو السيد). وهذا اسمه- فيردد “سبحانك ربي..”!
وفي ذلك المركز الطبي العالمي، وفي الوحدة الخاصة (بالأورام) التقيت بأناس وبأشخاص وبمرضى، فصرنا مثل أعضاء النادي الواحد، نعرف بعضنا ونتفقد من يغيب.. فما كان يجمع بيننا هو (المصيبة) وإن تنوعّت وتشكلت من واحد لآخر.. وكانت الرحلة إلى ذلك المركز من القاهرة بالعربة تستغرق زهاء الساعة يومياً من السبت إلى الأربعاء.. ولخمسة وأربعين يوماً حسوماً.. فذلك الجهاز ثلاثي الأبعاد – ثمنه لا يتعدى الثلاثة ملايين دولار، ولا أريد أن أثقل على الدولة، لذلك خطر لي تصور بتحريك المجتمع لشراء مثل هذا الجهاز خاصة بعد أن استشرى ذلك الداء بين أهلينا الطيبين، وذلك عبر حملة تبرعات تتولاها مجموعة مؤثرة.. وأحلم بدار لعلاج ذلك الداء جهة (الكدرو)، يشيدها أهل السودان وتشارك فيها الحكومة.
[ كتبت “سناء الريفي” على تغريدتها في (الفيس بوك) حول مرض د. دقش قائلة: