عجلات ضغوط المعيشة.. تدهس الجميع!!
الشغلة ما شغلتنا.. لكن الظروف جبرتنا
أستاذ جامعي يتحول إلى سائق حافلة مساءً.. وطبيب بيطري يعمل (فرد أمن)!
بروفيسور “علي بلدو”: ضغوط الظروف المعيشية قد تؤدي إلى الانتحار
تحقيق – هالة شقيلة
قصص متواترة من الحياة تكشف عن ما أصاب المجتمع السوداني من لهاث بحثاً عن توفير أساسيات الحياة، في ظل واقع اقتصادي قاهر.يعرف السودانيون منذ عهد (الإنجليز) نظام عمل الموظفين والعمال الذين يذهبون مع الصباح الباكر إلى أعمالهم ثم يعودون قبل العصر، فيتناولون وجبة الغداء مع زوجاتهم وأولادهم في شكل اجتماعي ميز الأسرة السودانية عن غيرها في المجتمعات العربية والأفريقية.
الآن.. صار الرجل والمرأة يخرجان معاً للعمل عسى ولعل أن يستطيعا الوفاء بالتزامات الأسرة المعيشية والصحية وتعليم الأبناء بعد أن سحبت الدولة يدها عن قطاعات عديدة، فطغى التعليم الخاص على العام.
الرجل يعمل في أكثر من وظيفة أو أكثر من دوام، ورغم ذلك (الحال من بعضو).
{ طبيب بيطري حارس أمن!
بدأ (الدكتور) يروي لنا حكايته المؤلمة، فهو طبيب بيطري متخصص في جراحة الحيوانات، لكن ضيق فرص العمل والضغوط الاقتصادية الكثيفة جعلته يعمل في وظيفة (فرد أمن) بإحدى الشركات بدوام (24) ساعة متواصلة، ليرتاح (48) ساعة أخرى ومن ثم يبدأ من جديد في ساقية لا تزال تدور وتطحن الأسرة وروح التواصل مع الأبناء والبنات، والقيام بدور الأب بصورة مناسبة. ودعنا (الدكتور) الذي ما تزال صورة الـ(يوني فورم) الذي يرتديه عالقة في ذهننا ومحفوظة لحين، كل هذا بسبب الظروف المعيشية وآثار السياسات الاقتصادية القاهرة.
{ قصة موظفة تحولت إلى (حنانة)
لم تكن قصة الحاجة (ن) بأفضل من سابقتها، حيث ابتدرت حديثها بأنها تعمل موظفة في الدرجة (الثالثة قيادية) في مؤسسة حكومية مرموقة لكنها تتلقى راتباً ضعيفاً لا يساعدها على الإيفاء بمتطلبات المنزل من (أكل، شرب وملبس وعلاج وتعليم)، وأضافت: (حتى بعد البدلات والعلاوات وبدل اللبس والوجبة وغيرها من الحوافر لا أستطيع تدبير أمور الأسرة، وهذا ما دفعني إلى امتهان مهنة “الحنانة “، وأصبحت مشهورة لدى النساء في الحي والأحياء المجاورة).
وما لبثت الحاجة (ن) قليلاً حتى اشتهرت بمهنتها الجديدة، وافتتحت محلاً للكوافير وتجهيز العرائس، وازداد دخلها وامتلكت منزلاً وسيارة وتطورت أعمالها، لكن المستجدات كانت خصماً على أسرتها وبناتها الصغار اللاتي لا تراهن إلا في ساعة محددة، فقد تركت مسؤوليتهن لوالدهن المتقاعد، وأصبح هو الآخر يؤدي دور الأب والأم في آن واحد. تقول (ن) إنها تشعر بالحزن ليلاً عند عودتها من العمل وصغيراتها نائمات، لكن ما أن يحل الصباح حتى يزول ذلك الشعور مقابل الاحتياجات.
{ وإن طال السفر
على إيقاع (البوري) وصياح “الكمساري” و”الكمسنجي” ومحاولة فض اشتباك بينه والسائق، والحناجر تتعالى بنداء: (الشعبي نفر) حدثنا (ص) بأنه أصبح سائق حافلة قبل تخرجه في الجامعة، ثم عمل في وظيفة مساعد تدريس في جامعة أمدرمانية معروفة وما لبث أن تزوج وأنجب توأماً فتضاعفت المسؤوليات من “إيجار منزل والتزامات تجاه أسرتيه الصغيرة والكبيرة، ومصروفات الأبناء وضيق ذات اليد، حيث لا يكفي راتبه الجامعي سوى إيجار المنزل فقط و(عشان كدا- قال- بقيت أسوق الحافلة دي بعد أرجع من الجامعة بعمل لي كم فردة واطلع منها التوريدة لصاحبة الحافلة والباقي مصاريف لي ولو ما كدا ما عارف كنت أعمل شنو). غادر، وتوارى بعيداً في شارع الأسفلت باتجاه (شعبي أم درمان) في رحلات تطول، يعود بعدها ليجد الأسرة الصغيرة في (سابع نومة)!
{ سبع صنايع والحظ ضايع
لم تكن حكاية الأستاذة “سلمى” بأفضل من سابقاتها، فهي خريجة آداب ولديها شهادات في الحاسب الآلي والشبكات، ورغم ذلك وجدت نفسها كاتبة في استقبال عيادة طبيب تتقاضى راتباً شهرياً لا يتجاوز الـ(500) جنيه.
ولإصابة والدها بالشلل الرباعي ومرض والدتها بـ”الضغط والسكر والرطوبة” وكونها الابنة الكبرى لسبعة من أشقائها الصغار، فقد تحتم عليها الخروج للعمل لتوفير الضروريات، بعد أن رمت شهاداتها جانباً لتعمل في دوامين صباحاً ومساءً يومياً.
“سلمى” قالت: (دواء أبوي بس ثمنه ثلاثة أضعاف ماهيتي).. ثم صمتت.
{ سيكولوجية الهمّ
تمثل الضغوط المعيشية بعبعاً مخيفاً ومهدداً خطيراً لاستقرار الأسرة والأمان الاجتماعي، كما تؤدي إلى زيادة الإرهاق الذهني وتعكر الحالة المزاجية للأسرة والأفراد.. بهذه العبارات ابتدر البروفيسور “علي بلدو” حديثه لـ(المجهر)، مبيناً أن الضغوط المعيشية والاقتصادية تفرض على أفراد الأسرة قضاء أوقات طويلة خارج المنزل بغرض العمل مع دوام إضافي من أجل المال، مما يعد خصماً على التواصل الأسري، إذ يتعذر اللقاء في الوجبات كما كان في السابق، وبالتالي يزداد التنافر والخلافات والنزاعات بين الأفراد مما قد يؤدي لتزايد التوترات بين الأزواج ثم الطلاق.
غياب رب الأسرة يؤدي إلى غياب الرقابة وتعدد الظواهر السلبية مثل الإدمان والسلوكيات المنحرفة وصولاً لدرجة ارتكاب الجرائم كالسرقة والاختلاس فضلاً عن الجرائم الأخلاقية.
ويواصل الاختصاصي النفسي والاجتماعي د. “بلدو” حديثه، مبيناً أن عمل بعض الأشخاص في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم تجعلهم يشعرون بالدونية والإحباط، مع الاكتئاب وعدم الرضا عن النفس، كما تتزايد حالات الانفعالات والغضب، التوتر، الخوف والقلق، بجانب الشعور العارم بالضيق الذي قد يؤدي إلى الانتحار.
{ خلية النحل!
تقول اختصاصية علم الاجتماع البروفيسور “هاجر علي حبة” لـ(المجهر) إن الضغط الاقتصادي الواقع على الأسرة السودانية في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، جعل الأسرة تعمل كـ(خلية النحل) ليلاً ونهاراً، من أجل تحسين الوضع الاقتصادي، فنجد الأم والأب يعملان وكذلك الأبناء لتغطية تكاليف المعيشة، وتترتب على ذلك إشكاليات كثيرة منها غياب دور الأب والأم في التوعية والمتابعة للصغار الذين هم في سن تتطلب التوجيه لتحقيق النشأة الاجتماعية السليمة. كذلك هناك حاجة لتوجيه من هم في سن المراهقة، لكن الكل أصبح يلهث من أجل زيادة الدخل، متناسين أهم دور يتمثل في الرعاية والنشأة الاجتماعية، مستشهدة بحديث الرسول “صلى الله عليه وسلم”: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته).. وختمت بالقول: (أنا لا أعمم، لكن أصبحت معظم الأسر تعاني من ذلك).