بعد.. ومسافة
الإسلاميون.. وحدة مستبعدة!
مصطفى أبو العزائم
يعتقد الكثير من الناس، أن غياب الشيخ الدكتور “حسن عبد الله الترابي”، عن المشهد السياسي سيعيد لحمة الإسلاميين من جديد، كأنما هم بذلك الاعتقاد أو (الوهم) الساذج يحملونه مسؤولية المفاصلة، بينما يعتقد آخرون ويروّج البعض لما راج أصلاً بداية المفاصلة لاتفاق تم بين جناحي الخلاف على تلك (التمثيلية) التي جازت على أهل السودان – إلا فئة قليلة – وعلى أهل الخارج، حتى يطول عمر الحكم الذي كان الراحل الدكتور “حسن الترابي” عرابه الأول، قبل أن ينتقل الدور – وفق تلك التمثيلية المفترضة – إلى شخص آخر هو الشيخ الأستاذ “علي عثمان محمد طه”، الأمين العام السابق للحركة الإسلامية، والنائب الأول السابق لرئيس الجمهورية، وهو أول كادر إسلامي يصل إلى هذا الموقع الرفيع، الذي يمثل ظلاً رئاسياً حقيقياً، بكل الثقل والقوة والقدرة على الإمساك بأكبر وأخطر الملفات.
واقع مسيرة الخلاف يقول بغير ذلك، لأن أسباب الخلاف كانت جوهرية تتمثل في تعديلات أساسية بالدستور، وانتخاب الولاة من قبل الناخبين مباشرة في ولاياتهم، وفتح الباب أمام المزيد من المشاركة السياسية للقوى والأحزاب والتنظيمات الأخرى من غير الإسلاميين، حتى تكون جزءاً من مكونات اتخاذ القرار.
في تلك الأيام (الملتهبة) التقيت بالسيد رئيس الجمهورية المشير “عمر حسن أحمد البشير”، في مناسبة اجتماعية داخل منزله بـ(بيت الضيافة)، وما كان هناك من الصحفيين غيري ليلتذاك، وقد سألت السيد الرئيس “البشير” سؤالاً مباشراً عن حقيقة الخلاف، وهل في الأمر أي شكل من أشكال الصراع على السلطة؟
ليلتها كان معي الأخ والصديق الدكتور “معز حسن بخيت” الذي تربطه صلة قربى قوية بالسيد الرئيس.. وقد أمسك السيد الرئيس بيدي، وقال لي:”أنا حأوريك الحصل شنو”.. وكانت روايته مطابقته تماماً لما وقتها، ولما نشرته الصحف على ألسنة رموز الخلاف من الطرفين.. وأذكر أنني قلت له إن “فلاناً” – وهو قيادي إسلامي رحل عن دنيانا قبل أعوام – قال إن الخلاف جاء بسبب محاولة جناح القصر السيطرة على الحركة الإسلامية، وإقصاء الشيخ الدكتور “حسن الترابي” من مراكز اتخاذ القرار.
لن أنسى غضبة السيد الرئيس عندما قلت ذلك، وتغيّرت ملامح وجهه الذي لم يكن يتجهّم قط.. وقال لي بشهادة الأخ الدكتور “معز حسن بخيت”: (فلان) ده كذاب.. ونحنا كنا متابعين إنهم بعملوا في شنو”.. وقد قمت بنشر ذلك الحوار الليلي القصير في صحيفة (الوطن) إبان تولي أستاذنا الراحل المقيم “سيد أحمد خليفة” لرئاسة تحريرها، وقد تم الاحتفاء بالحوار بنشر أبرز ما فيه على الصفحة الأولى، بينما تم نشر الحوار كاملاً على الصفحة الأخيرة، وكان حواراً من الذاكرة لم أسجله في جهاز تسجيل أو أدون الأسئلة والأجوبة على دفاتر.. وتلك طريقة تدربنا عليها كثيراً خلال فترة عملنا في صحيفة (الأيام) الغراء خلال فترة الحكم المايوي.
الحوار وقتها أثار ما أثار من ردود أفعال، حتى أن أحد أقرب المقربين للسيد الرئيس، اتصل بي مساء ذات يوم نشر الحوار، معاتباً ومحتداً في المخاطبة، وهو السيد الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” وكان وزيراً لشؤون الرئاسة، وقال لي كيف تنشر حديثاً خاصاً في مناسبة خاصة مع السيد الرئيس!! رددت على السيد الوزير – وقتها – وقلت له إن الرئيس هو الرئيس، سواء أكان في مكتبه أو بيته، وإن الذي حدث هو أمر خطير يتصل بأمر السودان كله، ولا بأمر فئة دون غيرها.
ليلتها قال لي الفريق “عبد الرحيم” إن أي حوار مع السيد الرئيس يجب أن يتم عن طريق المكتب الصحفي بالقصر.. وإن وإن.. حديث طويل، لكنني كنت أشعر بأنني أديت واجبي الصحفي، وقد أثلجت صدري عدة إشادات وثناءات وصلتني مباشرة من كثيرين على ذلك الحوار.
الخلاف في ذلك الوقت كسب منه معسكر القصر (الحكومة) بإبعاد من كان ينازع في سلطان الحكم.. وكسبت منه المعارضة التي قويت وأصبح شأن.. ودراية بشؤون الحكم، ومعلومات ما كان لها أن تتوفر لولا التحاق الشيخ الدكتور “الترابي” بها.. ولكن خسرت بلادنا كثيراً لأن ذلك الخلاف تولدت عنه أخطر أزماتنا التي مازلنا نعاني منها، وهي أزمة “دارفور”.
رحيل الشيخ “الترابي” يمثل موجة حزن كبيرة داخل المؤتمر الشعبي، لكنه يمثل خسارة ما بعدها خسارة للمعارضة التي ستعاني الضعف والهزال.