الاعمدة

أبقوا عشرة !

أظن أن الفراعنة كانوا (من عندنا)، فما شهدته من ملامح الملوك والأمراء المحنطين في المتحف المصري، يشير دون جهد إلى أن هؤلاء كانوا من الجزء الجنوبي للوادي، وأن أجدادنا من المحس والدناقلة والحلفاويين .. كانوا سادة هذا الوادي العظيم .. رغم الجغرافيا التي شطرت الوادي إلى جزأين !
لست بصدد إثارة مغالطات تاريخية، فما قلته لا يعدو كونه ملاحظة قابلة للتفنيد، كما أنني لا أريد النبش في موضوع (حلايب)، فالكلام قد انتقل الآن إلى (هجليج)، بعد أن مارست السياسة في دولة جنوب السودان ألاعيبها، وبات سلفاكير وباقان وجماعتهما يطالبون بأراضينا الداخلة في عمق السودان .. لكي ننسى أبيي .. ونحمد الله ليل نهار على سلامة الخرطوم من المطالبات الجنوبية !!
الجغرافيا باتت لغة العصر .. أقصد الجغرافيا السياسية، فالناس قبل قرون طويلة .. لم يكونوا يعرفون حدودا لتحركاتهم، ولو كانت الجغرافيا تقف حاجزا بين الناس والارض التي أورثهم إياها خالق الكون .. لما سمعنا بكريستوفر كولومبس، ولما ذاع صيت رواية (حول العالم في ثمانين يوما)، بل إن الهجرات العربية التي دخلت السودان، وساهمت في تشكيل جزء مهم من مكوناته السكانية، لم يكن لها أن تحدث، لو كانت الجغرافيا السياسية تسجن الناس، وتجبرهم على (الجنسية)، والباسبورت، والرقم الوطني !!
طبعا الأمر أيضا ينطبق على الهجرات الإفريقية صوب السودان، وهي هجرات كان بعضها يبتغي الوصول لأراضي الحجاز .. رغبة في الحج، كما كان بعضها الآخر يبحث عن أرض أكثر رخاء في مائها وزرعها وضرعها، وقد وجد هؤلاء وأولئك الكثير مما يبتغون، فأناخوا مطاياهم في هذا السودان الشاسع المتسع، وليتشكل من الجميع هذا الوطن الكبير .
ولأن الدنيا دولاب، فلم يعد السودان موطنا للهجرات، اللهم إلا من بعض الذين لدغتهم الفاقة بأشد مما نقاسيه .. فجاءوا طلبا للأمن المعيشي، لكن الظاهرة الأعم، هي الهجرات السودانية صوب كل الدنيا، بدءا من الدول الإفريقية (المتواضعة)، مرورا بالدول العربية مع تفاوت أوضاعها المالية، وانتهاء بآسيا وأوروبا وأمريكا وأستراليا .. وإسرائيل !
والمهاجرون السودانيون، في غالبيتهم الغالبة، هم من المميزين في مهنهم وتخصصاتهم، وهذا يجعل أبناء السودان سفراء فوق العادة لوطنهم في أي بقعة يرتادونها، ولطالما وجدنا الاحتفاء من أجانب كثر .. دونما سبب إلا لأنا سودانيون، بعد أن ترسخ في ذاكراتهم انطباع متميز عن السودانيين .. بسبب نماذج تعرفوا عليها في الخارج !
لكن المقلق في الهجرات السودانية .. أنها نزيف لعناصر لا يمكن أن يتم نماء الوطن في غيابها، وتلك مصيبة تشبه مصيبة المريض الذي تجرى له عملية نقل الدم، في حين أن هناك جرحا خفيا ينزف بأكثر مما يتم حقنه في أوردته الظامئة لسائل الحياة !
آخر المصائب، انتشار نغمة جديدة، وهي التصريح الجهري من قبل البعض .. بأن الاغتراب إذا حدث .. سيكون خروجا عن السودان بلا عودة .. هربا من المعاناة .. وزهدا في بلد تتقاذف إنسانه الظروف الطاردة دون رحمة !
اغتربنا من  قبل بنية العودة، وعدنا بلهفة العاشق لحبيبته، لكن أبناءنا يفكرون بأجندتهم لا بأجندتنا .. وكم هي مفزعة تلك الأجندة .. التي تجعل الوطن يفقد أبناءه إلى الأبد !
حلايب سهلة .. أبقوا عشرة على هجليج !أبقوا عشرة !

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية