تقارير

صراعات الأجنحة داخل الاتحادي ..اقتراب الانفجار الكبير

وصلت حد ابتزاز نجل “الميرغني” اقتصادياً
تقرير: عقيل أحمد ناعم
في ظاهرها  جامدة  حد الموت، ميتة حد الفناء، هكذا تبدو بعض الأشياء في ظاهرها، فما بال أحشاؤها التي لا نراها؟ قد تدهمنا المفاجأة بأنها تمور حد الغليان، وتضطرب حد الانفجار… الناظر للحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) لا يرى إلا هذا الموات الذي يرسم ملمحاً كالحاً شاحباً على وجه الحزب العجوز، ولكن ما إن تبدأ الغوص في دواخله حتى يلفح وجهك لهب الصراع الذي وصل هذه الأيام مرحلة كسر العظم، وهي مرحلة يستحيل فيها التراجع لأي طرف من أطراف هذا الصراع الخفي، الذي يتسرب أحياناً للعلن بعض غبار معاركه الضروس… ماذا يجري في حزب “مولانا” وهل وصل هذا الأخير خط النهاية في قيادة الحزب؟ وما هي هذه الأجنحة المتصارعة؟ وهل ينذر صراعها بانفجار الأوضاع وبروز مفاصلة رأسية، أم أن “مولانا” احتاط من زمانٍ بعيد وصمم هيكلة حزبه بما يمنع مثل هذا التصدع القاعدي؟؟

نظرية (جلباب مولانا) في خلق القيادات
لم تغب عن مولانا حالة القلق والتوجس من إمكانية تكرار تجارب الانشقاقات في الحزب، وهو يستبصر المفاصلة الأشهر في تاريخ الاتحادي مع تباشير استقلال السودان التي قادها الزعيم “الأزهري” بعد أن استشعر عدم الحاجة للائتلاف مع السيد “علي الميرغني”، والتي ـ لاحقاً ـ دفع “الأزهري” ثمنها باهظاً بفقدان “الوطني الاتحادي” أغلبيته البرلمانية وسقوط حكومته. ودون أن ينسى في التاريخ القريب خروج الراحل “زين العابدين الهندي” وفي معيته أعداد مقدرة من قادة وقواعد الحزب في تسعينيات القرن الماضي.
وبدافع (فوبيا) الانشقاق والانسلاخ تولدت لدى مولانا حالة تخوف ورفض لأي قيادي صاحب كاريزما وشخصية مستقلة، فعمد “بدهاء” لإعمال نظرية أفلح كثيراً في إنفاذها فحواها؛ “خلق قيادات يقوم مولانا بإلباسها جلبابه فتبدو للآخرين بأنها صورة له لا تنطق إلا بوحي منه، وتعتمد فاعليتها بالأساس على مدى إقناع الناس بأنها تتحرك برضا السيد” ، وفي اللحظة التي يشعر مولانا بالرغبة في إزاحتهم من المشهد لا يحتاج سوى خلع جلبابه عنهم”. وهذا ما يفسر أن جميع قيادات الحزب المؤثرة الآن هم رجال مولانا الذين لا يعصون له أمراً ويفعلون ما يؤمرون، والذين أبرزهم وأكثرهم طاعةً وولاءً وأحرصهم على اعتمار جلباب مولانا (حاتم السرـ رجل مولانا الأبرز ـ والخليفة عبد المجيد ، وبابكر عبد الرحمن، المراقب العام للحزب، والأمير أحمد سعد عمر), وبهذه النظرية اطمأن حفيد الشيخ “أبوجلابية” في ظل الحالة الهلامية التي يعيشها الحزب إلى أن أي قيادي يفكر في الانسلاخ والتمرد لن يحمل معه إلا نفسه التي بين جنبيه، وبهذا يرى  “الميرغني” أنه ضمن تفادي حدوث انشقاقات قاعدية في حال خروج أياً من قادة الحزب، ولعل نجاعة هذا التفكير برز في حالة انسلاخ القيادي “فتح الرحمن شيلا” الذي كان أبرز رجال مولانا، والذي عند خروجه ظل الحزب متماسكاً لم تتأثر قواعده بانتقال “بلدوزر” الاتحادي إلى الحزب الحاكم.
اقتراب الانفجار
يمكن تلخيص أبرز مصادر خلافات الحزب الاتحادي مؤخراً بأنها تحوم حول الموقف من المشاركة في الحكومة، بجانب معارك التقرب من “الميرغني” والتزلف بأن لا يجد أحدهم نفسه وقد انتبذ من مقام مولانا مكاناً قصياً.
وفق هذه المعطيات تتكشف حالة الغليان وصراع الأجنحة التي تنذر قريباً بإعادة تشكل واسعة للواقع الاتحادي، خاصة وأن “الميرغني” بات مؤخراً مهتماً بالكليات وأهمل جزئيات وتفاصيل إدارة الحزب؛ الأمر الذي خلق فراغاً تنظيمياً وإدارياً أصبح ملعباً لصراع فرقاء الحزب.
تبدل المواقف وتشكل التحالفات الجديدة

كان معلوماً لفترة قريبة أن “محمد الحسن” نجل “الميرغني” يقود تياراً لا يرضى عنه والده، يضم بعض رافضي المشاركة في الحكومة وأبرزهم (حاتم السر، بابكر عبد الرحمن، وعلي السيد)، في مقابل تيار المشاركة الذي على رأسه عرّاب المشاركة الخليفة “عبد المجيد”، و”أحمد سعد عمر”  الذي هو الآن أكثر القيادات قرباً من “الميرغني” باعتباره الممسك بملف العلاقة مع الحزب الحاكم، وهذا بالتأكيد بخلاف التيار الأعنف في رفض المشاركة الذي يقوده الشيخ “حسن أبو سبيب” ويضم كثيراً من قطاعات الحزب خاصة الشباب والطلاب.  ولكن حدث تحول دراماتيكي في المواقف أنتج إعادة تشكيل للتحالفات داخل الاتحادي، بانتقال البعض من ضفة إلى أخرى. أبرز هذه التحولات والتشكلات الجديدة شهدتها مجموعة “حاتم السر” في أعقاب إقدام الخليفة “عبد المجيد” على تعيين “حاتم السر” مستشاراً قانونياً للبنك الإسلامي، الذي يمسك الخليفة بزمام الأمور فيه، بعدها نجح (الرجل الأخطبوط) الخليفة “عبد المجيد” ـ بلغة الرياضة ـ في (كسب توقيع) “حاتم” وبقية مجموعته ـ باستثناء السيد “الحسن” ـ وجرهم جراً للتحالف معه، وإقناعهم بتبني تأييد المشاركة عبر طرقهم وآلياتهم الخاصة ليحلوا محل مجموعة “أحمد سعد”، إلا أن مجموعة “حاتم” فشلت في جر “الحسن” للتحالف الجديد. وبهذا تحول الخليفة “عبد المجيد” إلى ممول أساسي وراعٍ لمجموعة “حاتم” والتي باتت تعقد غالب اجتماعاتها في منزله. مع الأخذ في الاعتبار ما كشفته مصادر واسعة الاضطلاع داخل الحزب وشديدة القرب من “الميرغني” لـ(المجهر)- مفضلة حجب اسمها- أن هذه الرغبات جوبهت برفض من مولانا، وأشارت إلى أنه برر رفضه لتحركاتهم بقوله صراحةً (مجموعة المشاركة صبروا عليها لمّا كانت حارة). وبهذا يكون قد تشكل داخل الاتحادي تحالف جديد من خصوم الأمس (حاتم ومجموعته مع الخليفة “عبد المجيد”)، والذين اتجهوا مؤخراً من باب التكتيك للتقارب مع مجموعة “أبوسبيب”، ليبدأ صراع بين هذا التحالف والسيد “الحسن”. وبالمقابل تشكل تقارب وتحالف جديد بين نجل “الميرغني” ومجموعة “أحمد سعد عمر”.
لجوء (مجموعة البنك) لابتزاز “الحسن” اقتصادياً
بعد اتضاح وقوع المفاصلة النهائية بين “الحسن” وحلفائه السابقين ، واستيئاسهم من إمكانية إعادة حبال الود معه، اختاروا استخدام سلاح رأوا أنه الأقدر على كسر عناد نجل “الميرغني”، وهو ابتزازه مالياً، عبر معاملة مالية قديمة للرجل مع البنك التابع للحزب، في ظل سيطرة “الخليفة” و”السر” على البنك. وأكدت مصادر (المجهر) المقربة من السيد “الحسن” أنه واجه محاولة الابتزاز بمزيد من التطرف في مواجهة حلف (عبد المجيد وحاتم) أو ما بات يُعرف داخل الحزب بـ (مجموعة البنك)؛ الأمر الذي دفع “الحسن” لإبعاد مجموعة “حاتم” و”الخليفة” تماماً من منافذ التأثير داخل الحزب بإبعادهم من اللجان التنظيمية ومن ملف التفاوض مع المؤتمر الوطني.
تأثيرات حادثة المسدس
حدث قد يبدو هامشياً في مشهد الصراع ، لكنه شكل علامة فارقة في ترسيم ملامح الصراع وجعله واقعاً لا يمكن التستر عليه، هو ما عُرف بـ (مؤتمر المسدس) الذي اتهم عقب نهايته القيادي المحسوب على مجموعة “الحسن” السابقة “علي السيد”، من سماهم حرس الناطق باسم الحزب “إبراهيم الميرغني” بتهديده بالقتل ورفع “مسدس” في وجهه، ومن ثم تصريحه الغاضب للصحف بأن “إبراهيم الميرغني” المنتمي لمراغنة كسلا وشمبات يسعى للسيطرة على الحزب في مواجهة مراغنة بحري في إطار صراع بين أبناء العمومة للسيطرة على الطائفة والحزب، الأمر الذي أغضب بشدة “محمد عثمان الميرغني”. وأكدت ذات المصادر أعلاه أن “الميرغني” ونجله “الحسن” اعتبرا هذه التصريحات “تدميراً إستراتيجياً لعلاقة الأسرتين”. وما أحدث المفاصلة النهائية بين “الحسن” ومجموعة “حاتم السر” ـ بخلاف ما تم سرده أعلاه ـ أنه وصل لقناعة أنهم يحاولون استخدامه ضد والده، والتستر خلفه لأنهم لا يقوون إطلاقاً على مواجهة أو مخالفة مولانا، وتأكده من أنهم يرغبون في أن يقود الحزب خلفاً لوالده ولكن تحت مظلتهم، خاصة وأنهم اقترحوا في سبيل تنفيذ هذا المخطط تكوين أمانة عامة يتبوأ عبرها “حاتم السر” موقع الأمين العام.
مؤتمر كشف الحال
ذاك المؤتمر الصحفي الذي شهد الاتهامات بإخراج البعض (المسدس) في وجه “علي السيد”، صاحبته ملابسات غاية في الأهمية، إذ إن مجموعة “حاتم السر” كانت ترتب من خلاله توجيه ضربة لمجموعة “أحمد سعد” لتحل محلها وتعلن نفسها مجموعة بديلة ممسكة بأمر مشاركة الحزب في السلطة، من خلال إبدال هدف المؤتمر المتمثل في إعلان تطوير مبادرة “الميرغني” للحوار، بإظهاره منصةً لإعلان استجابة الحزب لخطاب الوثبة الذي أطلقه رئيس الجمهورية. وأكدت مصادر واسعة الإطلاع أن مجموعة “حاتم” كانت تجتمع سراً مع (الوطني) ووصلت معه لتفاهمات، إلا أن محاولتهم خلال المؤتمر الصحفي باءت بالفشل، بتدخل الناطق باسم الحزب “إبراهيم الميرغني” وبتدخل مباشر من مولانا قضى بحسم الأمر لصالح مجموعة “أحمد سعد”
ملامح المفاصلة وخسارة مجموعة “حاتم”
بعد هذه التطورات استعر الخلاف بين السيد “الحسن” ومجموعة “حاتم السر” ليصبح هو نقطة الصراع الأساسية بالاتحادي، وعلى إثر هذا أقصى  نجل “الميرغني” مجموعة “حاتم” من ملف المؤتمر العام للحزب ومن ملف المشاركة، بل ووصل به الأمر لإزاحة د.”علي السيد” من موقع مندوب الحزب بمفوضية الانتخابات، وتعيين نفسه (أي الحسن) بديلاً. وباستصحاب مامكن تسميته الأزمة الاقتصادية التي كادت تضرب بالحزب بتطور الخلاف لمؤسسات الحزب الاقتصادية، فإن الأمر وصل بين “الحسن” ومجموعة “حاتم” وما يُعرف بـ”بمجموعة البنك” حد المفاصلة النهائية. وهذا الذي حسم الأمر لصالح التقارب بين “الحسن” ومجموعة “أحمد سعد عمر” وفق ما صرح به لـ(المجهر) قيادي مقرب لحاتم السر، مؤكداً  إقصاء “الخليفة عبد المجيد” من ملف التفاوض مع  الوطني، واشتعال الخلاف بينه ونجل “الميرغني” حول ملفات الاقتصاد والمال داخل الحزب،  وصولاً للخلاف حول إدارة شؤون الطريقة الختمية. وبهذا يكون “الحسن” قد اقترب من الإمساك بخيوط الحزب كافة في يده ليتضح وفق هذه المعطيات أن مجموعة “حاتم السر” وبابكر “عبد الرحمن” و”علي السيد” و”الخليفة عبد المجيد” هي الخاسر الأكبر وسط أمواج الحزب المتلاطمة، حيث إنهم فقدوا المواقف النضالية التي كانوا ينطلقون منها، ولاذوا بأحضان راعي المشاركة الأول (الخليفة عبد المجيد) ما أفقدهم الإرادة وجعلهم بلا مواقف يرتكزون عليها. وكل هذا وسط ما أوردنا عاليه بأن “الميرغني” تنحى تماماً عن الاهتمام بتفاصيل الحزب اليومية، وتركيزه على القضايا الكلية.
الاعتراف بالأزمة
والأمر كذلك، كان لابد من تلمس الموقف الرسمي للحزب الاتحادي من هذه الأحداث التي تهدد تماسك الحزب. (المجهر) اتصلت بالناطق الرسمي باسم الحزب “إبراهيم الميرغني” الذي أقر بأن الاتحادي يمر بظروف صعبة. وقال: (لكنه واجه ظروفاً أصعب من هذه وتمكن من تجاوزها). وأوضح أن الموقف من المشاركة في الحكومة خلق أزمة حقيقية في الحزب، لكنه أكد أنها لا ترقى لدرجة الانشقاق القاعدي، إلا أنه بالمقابل لم يستبعد وقوع انشقاقات وانسلاخات على مستوى القيادات. وأشار إلى أن الاتحادي مؤمن بصعوبة الخيارات السياسية؛ الأمر الذي يجعله يقدم تنازلات متمثلة في المشاركة في الحكومة في سبيل معالجة أزمات البلاد.
“الحسن” الخليفة المحتمل الوحيد
ورغم تأكيدات الناطق باسم الاتحادي على مقدرة الحزب على تجاوز ما يمر به من أزمات، إلا أنه لا يمكن إغفال أن السيد “الحسن” نجل مولانا بدأ مؤخراً يستشعر ضعف والده وعدم مقدرته على قيادة الحزب، فعمد للتفكير عملياً في أن يحل محله، الأمر الذي بعث الخوف في قلوب مناوئيه بأنهم أمام تشكل (مولانا) جديد. ولكن خلاصة الأمر أن الحزب الآن يعيش حالة تشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة إما أن يكون على رأسها “الحسن” ، أو تقود الحزب لصدام وانشقاق قد يكون قاعدياً في حال كان لخصوم “الحسن” قواعد داخل الحزب، أو تنجح نظرية مولانا في خلق قيادات بلا تأثير ووجود قاعدي. ويبقى التحدي أمام نجل “الميرغني” أن يبحث عن كوادر اتحادية جديدة وفاعلة، بالإضافة إلى مدى مقدرته على تبني خط سياسي واضح يقنع قيادات وقواعد الحزب ليلتفون حوله، وأن يكون قادراً على الدفاع عن خطه السياسي، إذ إن الرجل يبدو عليه حالياً عدم المقدرة على التزام خط سياسي واضح الملامح، ولا أدل على هذا من تصريحه مؤخراً بأن الحزب لم يقرر دخول الانتخابات، وفي ذات الوقت خروجه على الناس بقرار رفع اسمه لمفوضية الانتخابات مندوباً وممثلاً للحزب. ومن ضمن أهم التحديات ضرورة بقائه في السودان لفترات طويلة حتى يتفرغ لإدارة الحزب، فالرجل معروف عنه أنه يبقى لأزمان متطاولة خارج البلد، فهل يقوى (خليفة الميرغني المحتمل) على مواجهة هذه التحديات، خاصة أن مناوئيه مجموعة كبيرة ومؤثرة وذات خبرات بكواليس الحزب؟ الأيام القريبة المقبلة هي تجيب على هذه التساؤلات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية