حديث لابد منه (17)
قلت تغير خروج العمال وذهابهم لبلدية عطبرة ولم يذهبوا للنقابة، وأوقفت السيارة خارج البلدية لكثرة الزحام ودخلت عليهم فعندما شاهدوني هتفوا: (قائد قائد يا عباس.. موقف حاسم يا عباس.. التطهير لمحافظ النيل).. ثم أخذوا يرددون بقوة التطهير لمحافظ النيل، فوجدت (قومندان) شرطة مديرية نهر النيل الأخ العقيد وقتها “عبد الله الحردلو” واقفاً ومعه الأخ “حافظ إبراهيم أحمد” الضابط الإداري بالبلدية ومولانا القاضي “حيدر سليمان” والمقدم “محمد عبد الجبار” المعروف بـ”كارتر” واقفاً أمام الشرطة لكي يأذن له القاضي بفض الموكب الهادر الذي امتلأت به ساحة البلدية والشوارع المتصلة بها، فقال لي الأخوين “الحافظ” و”الحردلو”: (الحمد لله الذي جاء بك يا أخي أنقذ الموقف وهدي من ثورة العمال..) قلت: لا أدري ما هي الأسباب التي دعت العمال للخروج والهتاف ضد محافظ مديرية النيل؟
عندها قال الأخ “حافظ إبراهيم أحمد” قد صدر قرار محلي بالأمس بزيادة صحن الفول وطُبق من تاريخ اليوم، فالعمال ذهبوا للإفطار ووجدوا الزيادة فقلت له: من أصدر هذا القرار؟ قال: الأخ المحافظ، فحزنت جداً لهذا الموقف غير الموفق من الأخ المحافظ، وقد دفع بالعمال لهذا الموقف فاعتليت شرفة الطابق الأعلى لمبنى البلدية، وعندها اشتد الهتاف بالمطالبة بتطهير محافظ النيل وهم يقولون (التطهير لمحافظ النيل ثم أمين أمين يا عباس.. قائد قائد يا عباس.. موقف حاسم يا عباس..) حمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسولنا الكريم، ثم شكرتهم على ووقفتهم القوية وثورتهم الشرعية، وأنهم رجال لا يرضون الضيم ولا يقبلون الذل، ثم قلت لهم إن قرار محافظ نهر النيل الذي أصدره تحت قدمي هذه.. وبإذن الله تعالى سوف يُلغى هذا القرار خلال الساعات القادمة، وإن لم يحدث ذلك فلنا شأن آخر، واطمئنوا فإن قضيتهم في أيدٍ أمينة وعودوا لمواقع العمل، وفي أقل من دقائق وبعد تصفيق حاد موحد عادوا لمواقع عملهم، ومعلوم أن (وجبة الفول) للعمال هي الوجبة الرئيسية ولا بديل له، فإن كل عامل أحضر معه قيمة الإفطار، وكان صحن الفول وقتها بـ(6) قروش، فارتفع إلى (9) قروش بزيادة ثلاثة قروش، وهذا مبلغ في وقتها كبيراً جداً، قطعاً هذا دافع كبير لموكب العمال الهادر الذي جاء احتجاجاً على ذلك، وعرفوا من خلال أصحاب المطاعم أن القرار قد وقعه محافظ المديرية.. قلت للأخ “عبد الله الحردلو” نذهب الآن للأخ المحافظ “مختار الطيب”، وبالفعل ذهبنا لـ”الدامر” من أجل مقابلة الأخ المحافظ “مختار الطيب بابكر”، وعندما شاهدني ومعي الأخ (قومندان) شرطة المديرية “الحردلو” نظر نظرة غضب وانفعال، ولا يخفى عليكم من خلال سردنا أن الأخ المحافظ الجديد “مختار الطيب” ليس ملماً بالأحداث التي حدثت بالنقابة ولا يعرف من كان على قيادتها، حيث أن الذي عاصر الأحداث وكان ملماً بكل صغيرة وكبيرة فيها هو الأخ محافظ المديرية الشمالية قبل القسمة الأستاذ الإداري المدرك “سعد عوض” عليه الرحمة والرضوان، فقد عاصر النقابة السابقة، ثم كان شاهداً على ثورة العمال في كل مراحلها وسحب الثقة ثم تكوين النقابة الجديدة، إذن الأخ مختار كان خالي ذهن، قطعاً شخص كهذا قد يستغل من بعض الشخصيات صاحبة الغرض، ويوجد في نظام الاتحاد الاشتراكي بالمديرية وقسم عطبرة من يحسن حبك المؤامرات، وهنالك من يسعى لجعل العلاقة بين النقابة والمحافظ أوهن من خيط العنكبوت، وهنالك من أزعجه استقرار العمال بعد وفرة المواد التموينية ووصول (الأسماك) و(الدجاج)، لابد من خلق حدث يظهر العمال بأنهم أهل فوضى ولا يقدرون جهود الإحسان إليهم.
الأخ المحافظ عاجلني بقوله: (يا عباس قلت قرار المحافظ تحت قدمي ماذا تريد أن تقول بعد ذلك؟)، طبعاً الخبر وصل إليه عبر الأجهزة الأمنية وقد نقلوا إليه الكلمة كاملة التي خاطبت بها العمال، قلت له: (يا أخ “مختار” أنت قلت نحن شركاء لا أجراء، فأين الشراكة في اتخاذ القرار الذي يؤثر على القاعدة العمالية والعمال لهم نقابة وقيادة؟ هل شاورت هذه النقابة؟ ولماذا تتخذ هذا القرار ولا تحاورنا فيه؟ عندها قال الأخ العقيد وقتها “عبد الله الحردلو” وهو (قومندان) شرطة المديرية: (يا سيد “مختار” الأخ “عباس الخضر” كان حكيماً في حديثه هذا، ولو لم يقل ذلك لحدث ما لا تحمد عقباه، قد يحرق العمال البلدية، وقد تلتحم الشرطة مع العمال وقد يكون نتاج ذلك ضحايا وخسائر فادحة، فحديث الأخ “عباس” لقد هدأ الموقف تماماً، وانصرف العمال في هدوء إلى عملهم.
إذن الأفضل الجلوس مع الأخ “عباس” والاستماع إليه)، عندها تحرك الأخ المحافظ “مختار الطيب بابكر” ودخلنا إلى مكتبه، قلت له: (يا أخي المحافظ أنت تعلم علم اليقين أن وجبة الإفطار ضرورية للعاملين وأن وجبتهم الرئيسية (الفول) ولا سواه، وأنت تحاورنا في زيادة جوال الدقيق وفي الخبز بأن تضع عليه قرشاً واحداً، فرفضنا حرصاً على الاستقرار والأداء والإنتاج، ونحن نجلس معك من وقت لآخر ونطلعك بالجداول والبيانات على المواد التموينية المنسابة من الميناء إلى الخرطوم، فلماذا تتجاوزنا في هذا القرار؟ عندها طلب الأخ المحافظ “مختار” الملف، حيث هناك توصية من أمانة قسم عطبرة للاتحاد الاشتراكي لإصدار القرار من المحافظ شخصياً، وقلنا إن الأخ “مختار” كان خالي ذهن عن الأحداث، وقسم عطبرة كانت تقوده رئاسة النقابة التي تم إسقاطها عن طريق سحب الثقة، فعلم أن هذه مكيدة بعد حديثنا معه، وعندها أصدر قراراً بإلغاء قراره في أقل من (24) ساعة، وتمت إذاعته وبثه عبر التلفزيون الريفي بـ”عطبرة”.
لقد قابل العمال هذا القرار برضا وتقدير، وقد عمق من ثقتهم في نقابتهم التي إذا قالت صدقت وإذا وعدت أوفت، هذا كله من توفيق الله وفضله رغم أن الموضوع كان عبارة عن كمين نصب من أجل أن تسخط القاعدة على النظام ويظهر بمظهر الجاحد للجهد المبذول لهم من النقابة ووزير النقل والسكة الحديد، ولكن القاعدة كانت واعية وقد ذهبت للبلدية حيث أنها جهة إنفاذ القرار، وهذا الكمين بدلاً من أن يكون هدماً وشلخاً في وحدة العمال وضربهم تحت الحزام وإحراج قيادتهم، لكنه كان دعماً لمسيرة النقابة القاصدة. ثم بعدها فكرنا في تقديم الدعوة للأخ رئيس الجمهورية وقتها المشير “جعفر نميري” لحضور المهرجان، كيف كانت الدعوة للسيد المشير “جعفر محمد نميري” رئيس الجمهورية في فترة نظام مايو؟!!
هذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله.