ثقافة الاعتذار.. العاطفي أسهل والسياسي أصعب ..!!
قبل فترة قليلة انتشر في الأسافير السودانية إعلان صحفي يحوي (اعتذاراً) من زوج سوداني إلى زوجته متوسلاً إليها أن تعود إلى عش الزوجية، ولم يكتف بذلك بل خاطب من خلال الاعتذار معظم أهل الزوجة فرداً فرداً راجياً منهم العفو.. وقد لاقى هذا الاعتذار ردود أفعال واسعة بين مؤيد ومعارض لتلك السابقة التي تعد نادرة في زمن يشهد فيه المجتمع السوداني تحولات لا مثيل لها، لكنها لم تتخط بعد التقاليد والعادات العتيقة خاصة المتصلة بالثقافة الذكورية التي تهيمن على حراك المجتمع.
وتكمن قيمة الاعتذار في عدم العودة إلى الخطأ مجدداً، لأن الخطأ مرة أخرى يعني الاستهانة بالآخرين. والاعتذار في حد ذاته صفة ترفع صاحبها درجات عند متلقيه.. وكثيراً ما يرتبط عدم الاعتذار بالكبرياء أو العزة الزائفة، التي ربما ترمي بصاحبها إلى مهابط الغرور أو تخصم منه اجتماعياً.
{ اعتذار سياسي
يعد الاعتذار السياسي الأصعب نوعاً ما مقارنةً بغيره، وذلك لأنه يرتبط بحقوق المواطنة العامة والرأي العام ككل، لذلك يعد خطوة شجاعة تسجل في المشهد التاريخي وتحفظها ذاكرة الأيام.. وتختلف ردود الأفعال تجاه الاعتذارات التي تمثل الدولة، لأن الشعب قد يتقبلها أو لا يغفرها، وقد ارتفعت وتيرة اعتذارات الساسة خصوصاً مع ثورات الربيع العربي.. وأول من بدأها كان الرئيس التونسي “بن علي”، ثم الرئيس المصري “حسني مبارك” ولم يتقبل شعباهما اعتذارهما لأنه أتى بعد فوات الأوان.. ومن الواضح أن دولة تونس تسبق مثيلاتها في ثقافة الاعتذار، لأن “بن علي” لم يكن الرئيس التونسي الوحيد الذي قدم اعتذاراً، فهناك الرئيس “المنصف المرزوقي” الذي قدم اعتذار الدولة التونسية لفتاة اغتصبها شرطيان في حادثة هزت الرأي العام في دولة تحظى فيها المرأة بحقوق فريدة.. وأيضاً قدم العاهل الأسباني الملك “خوان كارلوس” اعتذاراً غير مسبوق للشعب عن رحلة صيد قام بها إلى بوتسوانا، فيما تعاني بلاده من أزمة اقتصادية خانقة.
أما في السودان فقد ظهرت مؤخراً نبرة الاعتذار في خطاب عدد من القيادات السياسية وقادة الدولة، مغلفة بعبارة (اعفوا مننا).
{ اعتذار وجداني
على الجدران الخارجية لإحدى الجامعات السودانية، كتب شاب على طول الحائط (أنا آسف يا سماح).. وكل من يقرأ هذا الاعتذار يقلقه سؤال: هل يا ترى عادت سماح؟! وهذا إن دل إنما يدل على التحول الذي طرأ على شكل الاعتذار في العلاقات العاطفية، فالاعتذار عند المحبين تسبقه ثواني قلق عصيبة جداً، ويرى البعض أن الاعتذار يبدأ من الطرف الأضعف أو الأكثر حباً، شوقاً أو خوفاً على الطرف الثاني.. لكن بين كل هذا وذاك يعدّ محمدة تخفف من الضغوط العاطفية، بل ويضفي أجواء أكثر رومانسية تغير من روتين العلاقة.. وقد تزداد كمية ضخ العواطف بعد الاعتذار.. وفي كل هذا تجيبنا الأستاذة “ثويبة بادي” (موظفة) وتقول إن الاعتذار في الحب رغم الضعف الذي يصحبه يعدّ إهانة للكرامة ويجب أن لا يكون إلا عند الضرورة القصوى.. أما “رابحة يس” فترى أن الاعتذار في الحب قمة الإخلاص العاطفي.
{ اعتذار أسري
في الثقافة السودانية لم تدرج قيمة الاعتذار الأسري ضمن اعتباراتها، خاصة في الأسرة الصغيرة، وحتى عندما يحدث خطأ قد يؤنب المخطئ ولا يعتذر من نفسه بل يبرر أو يخفف من حدة الخطأ.. أما في حالة الخصام فأحد الطرفين يعود دون اعتذار، وقد يعود هذا لقرب المسافة بين أفراد الأسرة الواحدة.. لكن قد يكون هناك رأي آخر خرجت به (المجهر) من الطالبة “مودة حسن” التي قالت إن والديها يتخاصمان فترات طويلة ثم فجأة يعودان دون مقدمات (ودائماً ما يتنازل أبي لأنه أمي بتكون راكبة رأسها).. أما “أبو بكر آدم” (موظف) فيقول إن زوجتي دائماً تحب أن من يخطئ ليس عليه أن يعتذر فقط بل يوضح خطأه بالضبط، وهذه الطريقة صراحة مجحفة في حق المخطئ.. وتقول الأستاذة “فاطمة” إن الزوج السوداني لا يعتذر إطلاقاً إنما يحاول أن يخفف من حدة الموقف ببعض المداعبة أو بعض الطلبات وكأن شيئاً لم يكن.
ولمزيد من التقصي حول قيمة الاعتذار وماهيته أفادتنا الباحثة الاجتماعية “إخلاص محمد الحسن مجدي” قائلة: (الاعتذار سلوك متمدن يعد مردوده على العلاقات بين الأفراد والمجموعات طيباً، لأنه يوفر الفرص الجديدة للإيضاح وعودة الصفاء وتخليص العلاقات مما شابها، كما أنه يساهم في الحفاظ على كينونة الفرد وتقديره لذاته والاعتداد بها، وهو ضروري لجميع أفراد المجتمع بمختلف مستوياتهم، فثقافة الاعتذار موجودة حتى على مستوى الدول والكيانات القومية). وأوضحت أنه يمكن تصنيف دوافع الاعتذار إلى نوعين من الدوافع، الأول هو الشعور بالندم والحرص على عودة العلاقات إلى سابق عهدها وتمتينها والحصول على الراحة النفسية والانسجام مع الآخرين.. أما الثاني فهو الإبقاء على المسافة التي يرغب المعتذر في الإبقاء عليها، وأيضاً الفروقات الفردية وحسب درجة العلاقة بين الطرفين ونوعها، فهو إما مباشر وصريح أو مضمن في أي من أنواع السلوك المعبرة عن الندم أو عن المشاعر الإيجابية تجاه الآخر، كالحب والتقدير والحدب والحرص على العلاقة الطيبة. وقالت إن هذا السلوك مقصود به إيصال رسالة إيجابية مضمونها الاعتذار.. وزادت: (الاعتذار مؤشر إيجابي يدل على يقظة الضمير، وتوازن شخصية المعتذر، وقدرته على ممارسة النقد للذات وتقديره لها وتصالحه معها، كما يدل على حرصه وانسجامه مع المجتمع والتزامه بقيمه الإيجابية، كما يساهم الاعتذار في تقوية العلاقات وتحقيق الترابط بين أفراد المجتمع الواحد).