تقارير

الدمازين بين «عقار» وأبو «سروال» (1 – 2)

آخر عهد زرت فيه الدمازين عاصمة النيل الأزرق حينما كان «مالك عقار» والياً عليها. يمتطي سيارة الهمر الفارهة.. وينفق مليارات الجنيهات على مركز «عقار» الثقافي ومواطني الكرمك والرصيرص تحصد أرواحهم أمراض الجوع والفقر.. ويصطرع الشريكان حينذاك في تفسير (مصطلح) المشورة الشعبية ودلالاته السياسية هل تعني حق تقرير المصير؟ أم شيئاً آخر.. عدت أمس والمدينة تغرق في مياه خريف تأخر كثيراً وحضر كثيفاً.. وحاكم جديد صغير السن.. لكنه واثق الخطى يمشي في دروب السياسة، جاء بعد حقبة الجنرال «الهادي بشرى» التي يذكرها بعض الناس بالخير.. ويلعنها آخرون جهراً.. والدمازين تختلف الروايات عن أصل الكلمة ومعناها.. البعض يزعم أنها تعني (الفئران) أو أرض الفئران برطانة (البرتا)، حيث يطلق على الفأر (الأمازينق) فيما البعض تعني (الغرباء) عن المنطقة.. ولكن الدمازين المدينة تعتبر من المدن حديثة التكوين حيث نشأت مع قيام خزان الرصيرص عام 1959م، ونهضت على أكتاف العمال والجنود المتقاعدين.. وبدأت حقبة الزراعة الآلية في عام 1971م، بدخول الدورة في الزراعة من خلال مشروع (أقدي) الذي بيع فيما بعد للشركة العربية للاستثمار الزراعي.. والمدينة التي أنشأ (طلحة) والد القيادي «باكاش» مسجدها الكبير في عام 1960م، شهدت افتتاح بنك الخرطوم (باركليز) عام 1962م، وشيد في بادئ الأمر (بالقش) وحينها كان السودان لا يعرف النهب والسرقة ولا الاحتجاجات السياسية التي مبعثها في النيل الأزرق توزيع الأراضي للتجار الوافدين على حساب سكان المنطقة… حتى غدت القضية سياسية عصية على الحل.. وأريقت دماء من أجلها وهلكت أرواح.. وبددت موارد.
الذهب وبني شنقول وفازوغلي:
هبط وفد وزير المعادن «كمال عبد اللطيف» مطار الدمازين بعد (55) دقيقة من إقلاع الطائرة البوينج من مطار الخرطوم.. استقبلت المدينة الوفد بدعاش الخريف وعطر المهوقني وتقاطيع المدينة العمرانية التي تجعلها أقرب شكلاً لمدن الجنوب، ومضموناً لمدني والسوكي وسنار.. وفد كبير جداً من المسئولين التنفيذيين والتكنقراط وأربعة رؤساء تحرير صحف يومية.. وأكثر من سبعة من المحررين.. و»كمال عبد اللطيف» الوزير الوحيد الذي يلبي رؤساء تحرير الصحف دعوته حتى لو جاءت متأخرة لصفات خاصة برجل جم التواضع طيب المعشر.. حوله نخبة من الشباب الأذكياء والبنات النشيطات.. وذلك لحضور منشطين في قاعتين متجاورتين.. الأول مؤتمر ولاية النيل الأزرق للتعدين، والمنشط الثاني الاجتماع التنسيقي لوزراء المالية والمشرفين على التعدين في الولايات. والذهب والكروم والرجال الأشداء من المغريات التي دفعت (بباشا) مصر «محمد علي» إلى (استعمار) السودان وانتهاك سيادته والتي تعرف في التاريخ الذي يدرس لطلابنا (بفتح السودان)! والنيل الأزرق موطن قديم للذهب حيث جبال بني شنقول ومملكة فازوغلي التي تقاصرت الجهود البحثية والعملية عن الغوص في أعماقها، والذهب في النيل الأزرق يجاوره معدن الكروم والمانجنيق والحجر الجيري.. ووزارة المعادن مع حداثة عمرها إلا أنها تنحت كثيراً من الصخور بحثاً عن ما وراء الكتل الصماء من معادن نفيسة وبدائل اقتصادية تغني البلاد عن الاعتماد على النفط الأسود (البترول) وحده.. وقد كشف الوزير عن تصدير البلاد خلال العام الماضي لـ(40) طناً من الذهب بعائد بلغ (2) مليار دولار أمريكي.. من التعدين الأهلي.. يقول الوزير إن هذه العائدات لم تذهب مباشرة لخزانة الدولة ولكنها عائدات من العملات الصعبة ذهبت لتغطية حاجة البلاد من استيراد الدواء والغذاء والكساء ومدخلات الزراعة والصناعة، ولولاها لبحثت المالية عن مال لتغطية ثغرة تلك الحاجة.. وعدد الوزير وهو يتحدث في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر التعدين بالولاية نجاحات قطاع التعدين الأهلي في توظيف مليون شاب في هذا القطاع منهم على الأقل (250) من الخريجين العاطلين عن العمل بسبب ضيق فرص التوظيف!
وقال إن فرص ازدهار التعدين عن الذهب والكروم والمانجنيق في ولاية النيل الأزرق، رهين بتوسعة الدائرة الأمنية والقضاء على التمرد الذي يتواجد في شريط حدودي (ضيق جداً) مع دولة الجنوب.. فيما بسطت الحكومة سيطرتها على أغلب النيل الأزرق.. حيث للتمرد وجود في محلين قيسان والتضامن فقط!
وأثارت قضية ملكية الأرض جدلاً بين المؤتمرين من الوزراء الماليين والمشرفين على قطاع التعدين في المؤتمر التنسيقي الذي كان أبرز حضوره من الوزراء بالولايات د.»عبده داؤود» وزير مالية شمال دارفور والسلطان «محمد عثمان هاشم» وزير مالية غرب دارفور والسيد «علي العوض» وزير مالية كسلا والوزير «بتيك» فاكهة وزراء الولايات قادماً من دنقلا.. فيما مثل ولاية الخرطوم مولانا «أحمد إدريس» مدير الأراضي لأن ولاية الخرطوم لا نصيب لها من التعدين ولكنها تملك أرضاً تهفو إليها نفوس الولايات كقطع سكنية واستثمار، ويحرس بوابة أرضها القاضي «أحمد إدريس»، والذي أكد في المؤتمر التنسيقي أن قضية الأرض إذا لجأت أطرافها الأربعة.. المركز والولايات والمحليات والسكان للتنازع تعطلت المصالح، وإذا (تفاهمت) انتفع الجميع من خيراتها.. ومثل النيل الأبيض الوزير «عبودي» وغابت كردفان بلا مبررات مثل نهر النيل والبحر الأحمر.
وأكد الوزير «كمال عبد اللطيف» أن قانون الأراضي لعام 1925م، بات غير صالح ولا بد أن يطاله التغيير والتجديد.. وأقر في الوقت نفسه بأن النزاع حول الأرض يشكل معيقاً حقيقياً للاستثمار والزراعة والتعدين!
الأمن والتفاوض والتمرد!
جاء «حسين حمد يسين» والياً على النيل الأزرق بعد رحيل اللواء «الهادي بشرى» عن الدمازين، بعد تصاعد الخلافات والصراعات بينه وقيادات الولاية الآخرين.. من «عبد الرحمن أبو مدين» نائب رئيس المؤتمر الوطني إلى د.»فرح عقار» الذي تم فصله من المؤتمر الوطني بتهمة عدم الانضباط التنظيمي.. ولكن الرجل دفع ثمن التفكير علناً في زمن الصمت والجهر بما يؤمن به في عهد السكوت ودرء المصالح بالسهو والإذعان.. ويعتبر الوالي «حسين أبو سروال» من القيادات التي صعدت حديثاً من حقل التعليم مترقياً لعدد من الوظائف السياسية.
ولم يفلح الوالي حتى اليوم في (تنفيس) الاحتقان السياسي بالنيل الأزرق، رغم أنه نجح في ترميم صفوف حزب المؤتمر الوطني وتوحيده تحت قيادته التي ينظر إليها المراقبون بأنها تتسم بالهدوء والميل للتوافق والنأي عن المواقف الصارمة.. دون وصف الرجل بالرمادية فقد أعلن عن اتصالات جرت بينه والمتمردين من حاملي السلاح خلال الفترة الماضية. وقال في حديث خاص لـ(المجهر) إنه اتصل بقيادات من الحركة الشعبية منذ تكليفه بمنصب الوالي، وأثمرت اتصالاته عودة عدد كبير من القيادات وأسماء معروفة في الحركة الشعبية وصلت الدمازين خلال الأسبوعين الماضيين. ويرفض الوزير الكشف عن أسماء تلك القيادات لضرورات سياسية.. وأضاف الوالي: اتصالاتي بالمتمردين من أبناء النيل الأزرق لم تشمل حتى اللحظة «مالك عقار» ولو وجدت سبيلاً إليه لاتصلت عليه وحدثته عن ضرورة التفاوض والسلام. وقال «حسين حمد» إن من يقبل على السلام مجرد عودته يذهب لمنزله ولا تتم مساءلته من قبل الأجهزة الأمنية، ولكن كثيراً من القيادات ترتابهم شكوك بأن العودة لبعض القيادات لن تحقق لوحدها سلاماً في النيل الأزرق.
ابنة المتمرد السلطان:
وزيرة الثقافة والإعلام في النيل الأزرق.. سيدة دون الثلاثين من العمر.. قادمة من بيت كان كبيره وربه متمرداً في جبال الأنقسنا.. السيدة ذات (الخضرة الدقاقة) «خالدة أبو العلا جمعة» والدها كان ضابطاً نظامياً برتبة مقدم.. ولكنه آثر حمل السلاح كمثل ضباط مثله.. سبقوه مثل «يعقوب إسماعيل» و«جون قرنق» و«حماد الإحيمر» واكتشف «أبو العلا جمعة» خطر التمرد وطرقه الشائكة.. فكان من أوائل العائدين في التسعينيات، فاحتضنته الإنقاذ ورفعته لمقام الوزير والمعتمد والنائب البرلماني.. وحينما هرم في سنه اختاره أهله سلطاناً وأميراً وملكاً للأنقسنا.. فترقت ابنته «خالدة» لمنصب الوزير والناطق الرسمي باسم الحكومة.. تحدثت عن الأوضاع الآن بالنيل الأزرق، وقالت إنها من الناحية الأمنية مستقرة جداً.. والتمرد بات لا يشكل مهدداً للمدن وذهب «عقار» لسبيله.. وإن الحركة الشعبية في النيل الأزرق فقدت بريقها وخسرت المواطنين، لأنها أساءت الحكم في حقبة «مالك عقار» التي لم تشهد مشروعاً تنموياً واحداً في النيل الأزرق، ولكنها شهدت تنامي وتضخم ثروة الرجل وسياراته الفارهة.
وتعترف الوزيرة «خالدة» بأن مشروع تعلية سد الرصيرص قد حقق قدراً من الاستقرار وتوطين آلاف المواطنين في المدينة السكنية، لكن لا تزال قضية الإنسان في الحصول على ماء من النيل للزراعة هي شاغل همه ومبعث الصراعات.. وأن الحكومة المركزية مطالبة بتمييز إيجابي لصالح النيل الأزرق.
وزير في السوق!
في رحلاته المتعددة للولايات يختار «كمال عبد اللطيف» من تلقاء نفسه اكتشاف الحقيقة الباهرة عن المدن والمناطق التي يزورها بعيداً عن تقارير الأجهزة الحكومية.. وليلة أمس الأول كانت الدمازين (تعلم) عن زوارها من السياسيين والصحافيين والوزراء التنفيذيين، ولكنها ما كانت تتوقع أن تشاهد وزير المعادن في مقهى بالقرب من المستشفى والساعة تجاوزت العاشرة مساءً يشرب القهوة والشاي السادة وسط جمع من شباب الدمازين الذين اكتشفوا وجود الوزير في مطعم شعبي ومقهى يعرف (بالمنتدى).
جاء إثنان من الشباب وجلسا يحدثان وزير المعادن عن تجربتهما في استقطاب الدعم الشعبي من أجل تقديم خدمة لإنسان الدمازين، بعد أن غمرت المياه أكثر من (400) منزل من الأحياء الفقيرة للعائدين من مناطق التمرد.. الشباب أطلقوا على مبادرتهم اسم (مدد).. تحدثوا عن رغبتهم في تقديم خدمة لأهلهم بعيداً عن الحكومة وضجيجها وإعلامها وصخبها.. قالوا لوزير المعادن نحن لسنا أعضاء في حزب المؤتمر الوطني ولا أعداء له.. ولكننا شباب يؤمن بأن له دوراً في الحياة.. وأن وجود الوزير في قهوة المنتدى شكل مفاجأة لهم.. وأن كثيراً من قناعاتهم تزحزحت عن صورة الحكومة في مخيلتهم!
انصرفنا والزملاء «الصادق الرزيقي» و«حسن البطري» و«إدريس الدومة» و«جمال عنقرة» و«آدم محمد آدم» في منتصف الليل لنخلد للراحة في انتظار العودة للخرطوم.
عطب أم ضعف رقابة على الطيران:
عندما ودعنا الدمازين عائدين للخرطوم.. رفض سلم طائرة شركة بدر للطيران الارتفاع من الأرض، وهي من طراز بوينج لا نعلم تاريخ صنعها ولا عمرها.. هل شاخت وهرمت؟ أم لا تزال فتية.. الطائرة استعصى على الكابتن الأرمني سحب السلم.. حيث تستخدم الطائرة سلماً يخرج من جوفها كما تخرج السكين من بيتها.. فشلت كل محاولات سحب السلم.. حتى المضيفات الجميلات حاولن إصلاح العطب ليقرر الوفد قضاء ليلته في الدمازين في انتظار أن تتصرف شركة بدر، وهي في السابق كانت تسمى شركة (ساريا) ولكن وقعت حوادث لعدد من ركابها فاستبدلت اسمها ببدر.. ولكن كيف (تطير) بدر بدون مهندس؟ وما هي مسؤوليات الطيران المدني نحو ما يحدث؟ وحينما وصل المهندس صباح أمس نجح في إصلاح عطب السلم في ثلاث دقائق، لتعود الطائرة للتحليق وتبقى قصص أخرى عن الدمازين.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية