(المجهر) في رحلة الساعات الستة.. حكايات وصور عن معاناة (خريف ماطر) و(فقر مدقع)
لم يكن لهم من أسباب الحياة سوى زفرات من (زفير) ملوث و(شهيق) يخرج تلقائياً لينبئ أن ثمة (بشر) يقطنون تلك الفجاج التي نشر فيها الفقر رداءه الواسع.. وتسللت عناصره إلى عروقهم فتوطن بها واستقر به المقام فأحال ملامحهم إلى وجوه متغضنة كادت أن تزوي لفرط ما ألمّ بها من فقر ومسغبة وحاجة.
أزمتان خانقتان، تحالفتا على أهالي قرية دار السلام جنوب التي زرناها أمس الأول مع مجموعة من شباب (نفير)، الذين (تحزموا) لمتابعة مسح بعض الأحزان التي أورثها طوفان مياه السيول والأمطار الأخيرة.. ولكنهم بعد أن ساهموا بقدر كبير في تخفيف معاناة مصابي (الخريف الماطر) (تحزموا) مرة أخرى لـ(كنس) بعض ملامح الفقر التي رأوها بأم أعينهم في تلك المناطق التي التفت لها الناس بعد المعاناة الأخيرة، ست ساعات كنا فيها بقرية دار السلام منذ الثانية عشرة ظهراً إلى السادسة مساءً… وعشنا معهم تفاصيل قرية تتنفس فقراً.
{ مشهد أول بالعمارات
حين بدأت نسمات الصباح التي تميل إلى البرودة بعض الشيء وتسلل ضوء النهار إلى الأبدان والأشياء، وتمطت الكائنات تبحث عن رزقها.. كنا وقتها بمقر مبادرة (نفير) الشبابية التي ذاع صيتها مع كارثة السيول والفيضانات التي لم تدع يابسة إلا وغمرتها بالمياه.. كان الوقت في حوالي التاسعة والنصف صباحاً وحركة محمومة في المكتب الذي يتخير ناصية أحد الشوارع المهمة بالعمارات.. دلفنا إلى مكاتب المبادرة التي يديرها شباب لا يتجاوز أكبرهم سناً الثلاثين عاماً.. جلسنا معهم وأدرنا حديثاً حول المبادرة وما يواجهها من مصاعب.. وأظهروا وقتها إيمانهم الشديد بما يقومون به من عمل طوعي.. وكان كل فرد منكب على عمله بهمة.. مكتب لتلقي البلاغات، وآخر لتدريب المتطوعين، وثالث للعمل الميداني.. وأمام مباني المبادرة كان عدد كبير من الشباب، أغلبهم طلبة جامعات، ومواطنون تتوقف سياراتهم برهة لإنزال أكياس ملابس قديمة، أو (مشمعات) أو (حقائب غذائية) وغيرها من التبرعات، ثم لا تلبث تلك السيارات أن تختفي في أحد الشوارع الكثيرة التي تحيط بمباني المبادرة الشبابية.
بصحبة إحدى المجموعات التي تخرج يومياً تحمل معها مستلزمات مكافحة آثار السيول والأمطار أو مكافحة الفقر في أطراف العاصمة المثلثة، قصدنا دار السلام جنوب القرية التي تقبع في أقصى الغرب الأمدرماني.. وتحيط بها الأراضي اليابسة من كل الاتجاهات.. ساعة ونصف الساعة في الطريق حتى تبدت لنا القرية ببنيانها الذي يتكون معظمه من (الطين) و(الحصير) ويتنفس سكانها الفقر.. وتتجول الكائنات الدقيقة بحرية مطلقة في أنحائها وتحط أنى طاب لها المقام بأجساد أطفالها ونسائها وشيوخها، وتمتص من دمائهم ما يكفل لها (التزود) بما يكفيها ويفيض.
كل الوجوه هناك متشابهة، ذات سحنات متقاربة.. معظم ما يرتدونه لا يزيد عن الخرق البالية التي تستر بعض الجسد.. وتغطي ما يريدون له أن يُستر.. وتغزو الشمس الحارقة بعض تلك الأبدان، فيما يتكفل الفقر وسوء التغذية بنهش ما تبقى منها.. كانت الساعة حوالي الثانية ظهراً والشمس تتوسط كبد السماء وتوزع بسخاء كثيراً من الضوء والعرق.. وحين ذاع في القرية نبأ وصول حملة إغاثة تحفز من كانوا بالشارع وقتها وخرج من كان قابعاً في (راكوبته) أو كهفه المسمى مجازاً (بيته).
} صورة أولى.. عيون أطفال (ضاقت الهزيمة)
عند تخوم القرية حينما كانت درجة الحرارة في أوج قمتها ظهرت أبدان ثلاثة من الأطفال (الزغب) الذين لم يتعد عمر أكبرهم السابعة، كانوا يجرون أقدامهم جراً.. تغطي أجسادهم أسمال رثة وتضم أبدانهم أجساداً (كملانة من لحم الدنيا) يحملون في أيديهم أواني بلاستيكية معبأة بمياه أظنها فقدت خصائصها المتعارف عليها، فقد كانت ذات طعم غريب ولون أقرب إلى الحمرة، وبدا أنهم قادمون من مكان بعيد.. تغطي أرجلهم أحذية عتيقة وقديمة تقيهم شرور الأرض التي تمور من أسفلهم حرارة.. استوقفتهم لبرهة وسألتهم عن المكان الذي أتوا منه.. وتفضل بالإجابة أكبرهم سناً: (مشينا جبنا موية من الصهريج).. وحين رميت ببصري إلى موقع الصهريج الذي أتوا منه رأيته قابعاً في أقصى مكان بالقرية، ثم لم يلبثوا أن أسرعوا بخطاهم متوارين بأجسادهم النحيلة.
} صورة ثانية.. الصيام قسراً
عندما كانت مجموعة من شباب (نفير) تحمل الحقائب الغذائية والناموسيات والمشمعات أحاط بالسيارة عدد كبير من النسوة اللائي تبدى الفقر والحاجة التي كانت تنطق بها نظراتهن وهن يسردن حالهن بصوت يتهدج حيناً، وتطفر من مآقيهن دموع يحرصن على مداراتها في أحايين أخرى.. وكان صوت إحداهن مسموعاً بشكل لافت وهي تقول: (والله يا أخوانا أنا من أول يوم في رمضان ما خش بيتنا قرش واحد لأنو أبو العيال عيان وراقد في البيت.. ونحن هسه لينا تلاتة يوم ما أكلنا حاجة.. لو بقى علينا نحن هينين، لكن أولادنا الصغار ديل يأكلوا من وين).. ووقتها خانها جلدها وصبرها وانزوت خلسة لتكفكف بعض مخزون عينيها الذي اندلق وملأ وجهها..
} صورة ثالثة.. (شوية دقيق ما بيسوى شي)
في داخل أحد البيوت الذي انهار بشكل كامل جراء السيول والأمطار الأخيرة ولم يبق فيه سوى مبنى ضيق لا تتعدى مساحته (2×2 متر مربع)، جلست أسرة بكاملها تتكون من أربع فتيات وأمهن الفاقدة للبصر، كانت اثنتان منهم تتقاسمان (عنقريب صغير) لم يتسع لهما فيما افترشت البقية الأرض وينفضن عن أجسادهن الذباب والحشرات الصغيرة التي ربما أغراها ضعف أولئك النسوة فلم تحفل بأي مصدات وتبارت في الهجوم المدبب عليهن.. كان الجميع يعلم أن (شوية دقيق وسكر وبسكويت وخبز) وغيرها من مستلزمات الحقيبة لا يمكنها أن تقيم أود تلك الأسرة التي تحالف عليها الفقر ونكبة تحطيم منزلها بسبب السيول والأمطار.. وكانت أعين الشباب الذين كنت أرافقهم تنطق بأن الحال أسوأ مما يقال.. وأن إغاثة أولئك النسوة السريعة ودعمهن العاجل لانتشالهن من سفح الحياة الذي قد يقضي على بقية أنفاسهن ينبغي أن يكون الهمّ الأول والأخير.
} صورة رابعة.. كريات الصبر
رغم أن القرية بأكملها كانت تعاني من تدهور مريع في البيئة والحصول على مياه الشرب النقية، وشح بائن في المواد الغذائية، بالإضافة إلى هجوم الذباب نهاراً و(النمتي) و(الناموس والبعوض) ليلاً، ورغم أن التقديرات كانت تكشف عن أن كل أهالي المنطقة بحاجة إلى إغاثة فورية، إلا أن تركيز الشباب كان يتعدى الفقراء إلى من هم أكثر فقراً، وكانوا يركزون على المنازل التي بها أطفال أكثر من غيرها.. ولهذا ففي أحد البيوت التي دخلنا إليها وجدنا امرأة في حوالي نهايات الأربعين من عمرها تضم في حنو بالغ ثلاثة من أطفالها الذين بدأت تتسلل إلى سيماء وجوههم نذر سوء تغذية قد يطفئ نور الحياة.. لم تشتك.. ولم تتكلم.. ولم تنطق بحرف واحد.. ولكن ما كان ينطق فقط حالها وحال أطفالها.. ما كان يتحدث هو البؤس ونظرات الأطفال التي كانت تذيب قلوب أقسى الناس.. فارقناها وفي البال ألف سؤال.. (الناس ديل ح ينوموا كيف؟؟ وح يغتسلوا بي شنو غير الصبر يا ربنا؟؟ ولما يصحوا ح يأكلوا شنو؟؟ وح يتعلموا كيف؟؟)، وقتها ارتج العقل وامتنع قسراً وحسرة عن الإجابة، كما ارتجت معه كريات الصبر البيضاء.
{ أخيراً..
ربما كانت محنة السيول والأمطار الأخيرة هي ما لفت الأنظار إلى الواقع الذي يفتقر إلى أبسط أسباب الحياة.. وربما هي ما كشف سوء الحال الذي يسم أولئك القاطنين على هامش الحياة.. وربما هي ما جعل الوجدان السوداني يتحفز ويهب من سباته.. ولكن تلك المحنة كشفت أيضاً عن أن هناك في أطراف المدينة كثيراً من (البشر) الذين قست عليهم الحياة كثيراً ورمت عليهم أثقالها.. هناك تعتقد لأول وهلة أن الحياة متوقفة تماماً.. وأن أسبابها معدومة.. هناك يطفر في ذهنك ألف سؤال.. وللأسف لا تقوى على الإجابة عن أسهلها.
وغير بعيد عن الخرطوم العاصمة التي ترفل بعض أحيائها في العيش المخملي، يوجد أناس يخشون أن تشرق عليهم الشمس حتى لا يروا ما رأوه أثناء النهار.. هناك قضت الطبيعة والفقر على معالم الحياة.. فأدركوهم قبل أن نرى مستقبل أولئك الأطفال يسحل بتجاهلنا.. أدركوهم قبل أن نفيق ذات صباح لنرى أن كثيراً من السودانيين قد تحولوا ليلاً إلى بقايا وحطام ولا تجدي وقتها محاولات الإسعاف.