الخيار صفر!!
{ قليلة جداً الكتب السودانية التي تثير اهتمامات القراء.. وقد نضبت دور النشر وجفت الأحبار ويبست المطابع إلا من شذرات لكتب يقتنيها القارئ ويرمي بها بعيداً عن مكتبته قبل أن يتصفح كل أوراقها.. والخرطوم لا تزال تقرأ وتكتب، ولكنها تطبع الرديء من الإنتاج، ورقابة البوليس على النشر والضرائب المالية على الورق والأحبار من معقدات ازدهار سوق الكتاب.. واليأس والإحباط والشعور بخيبة الآمال وقبر التطلعات جعلت النخب والمثقفين يعزفون عن الكتابة، إلا بضعة استثناءات تضيء دياجر ظلمات بلادنا ببعض من إنتاج.
{ الدكتور “خالد التجاني النور” الكاتب والصحافي.. طبيب أركبه الزمان سرج الصحافة، وأجاد في حقلها رصانة كلمة وجزالة تعبير وسعة وإدراك، وقبل ذلك موقف وضمير وإحساس بقضية وطن وشعب.. كان مشاعاً لدكتور “خالد التجاني” وأمثاله من مثقفي الحركة الإسلامية وأبنائها المخلصين (الترقي) في المناصب والمواقع الدبلوماسية والتنفيذية إن هو أذعن لمن هم في موقع القيادة طاعة بلا تدبر.. وتنفيذاً للتوجيهات بلا عقلانية.. وأن يمشي مكباً على مصالحه الخاصة.. ولكن د. “خالد التجاني” مثله وآخرين من جيله ومن سبقوه، د. “محمد محجوب هارون” ود. “التجاني عبد القادر” والأفندي د. “حسين خوجلي”، جهروا بالرأي في زمن الصمت، ومارسوا التفكير في حقبة التنفيذ فـ(انتبذهم) الجهاز الحكومي ونظر إليهم بعين الريبة.
{ فاختار “خالد التجاني” حقل التنوير العام كصحافي ومحلل سياسي يكتب ما يمليه عليه الضمير الحر.. وكان حصاده كتاباً صدر الشهر الماضي تحت عنوان (الخيار صفر).. ضم الكتاب في صفحاته مقالات بعضها نُشر من قبل في (الصحافي الدولي) التي وئدت قهراً وفقراً و(الصحافة) و(إيلاف) و(المستقلة) اللندنية، وبعض المقالات حجبها الرقيب الحكومي بزعم أنها تمثل خطراً على الأخلاق السياسية، وتجرح مشروعات الحكومة الأيديولوجية والتنفيذية، وقليل مما لم يُنشر لأسباب خاصة بالكاتب وتقديراته.. ولكن أهم ما ورد في (الخيار صفر) نبوءة د. “خالد التجاني” المبكرة عن انفصال الجنوب، واندلاع حرب جديدة على أنقاض حرب سكتت بنادقها عام 2005م ولم تزل الأسباب التي أدت إليها.. ووقف “خالد التجاني” يذرف الدمع على مقولة على لسان الرئيس “البشير” (أخشى أن ينفصل الجنوب ولا يتحقق السلام).. ونهض الكاتب بمسؤوليته كمثقف وصحافي (مستنير) في الدعوة لإقرار وثيقة عهد مدني لغسل ثياب الدولة من انتهاكات حقوق مواطنيها.. حتى لا تؤدي كل عام إدانة في المحافل الحقوقية في العالم.
{ وكتب عن خطل منهج السيد “سلفا كير ميارديت” في الانكفاء على ذاته وجنوبه على حساب دوره القومي بعد رحيل د. “جون قرنق دي مبيور”.. وتبدت حسرة “التجاني” على رحيل “قرنق” كبيرة، ليس حباً في منهجه ولا أخذاً بأطروحته (السودان الجديد) لكنه أدرك أن سلفه “سلفا كير” باغتته السلطة و(تاه) في دروبها، واختار من الحلول أسهلها.
{ كتاب (الخيار صفر).. تتبدى إحباطات الكاتب وشعوره بخيبة الأمل من عنوانه، ولكن في مادته ما يعين كل باحث عن علل وأمراض الوطن في الوصول إلى مبتغاه.
صحيح أن مثل كتاب (الخيار صفر) يقع في دائرة اهتمامات النخبة من السياسيين والطبقات الوسيطة في المجتمع، لكن بالضرورة أن يجد طريقه لعامة الشعب الذي هو (أذكى) من الكتاب والحكام، ولكن أخذته مشاكل خبزه، ولبن أطفاله عن القراءة والاطلاع على جهد من حقه النظر إليه ولو في ساعة مواصلات من سوبا إلى الخرطوم على متن بصات الوالي، وأي والٍ يأتي!!