تقارير

المحسوبية والمحاباة في الوظائف العامة.. المسؤولون يصرخون في الهواء الطلق

(المحسوبية.. الفساد.. المحاباة.. المجاملات).. مفردات يتعامل معها المسؤولون في الحكومة بدرجة عالية من الحساسية، وتتباين وجهات النظر والمواقف من التعامل مع تلك القضايا، سيما عند إثارتها في الصحافة والإعلام.
في الأسبوع الأخير لشهر رمضان، تصدرت تصريحات منسوبة لوزير العدل مولانا “محمد بشارة دوسة” عناوين الصحف ووجدت اهتماماً كبيراً في النشر والتناول. ولعل تلك التصريحات التي أطلقها “دوسة” كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول عن تلقيه طلبات للتوسط في وظائف مستشارين قانونيين بوزارته يجري التنافس حولها بين عشرات المتقدمين لتلك الوظائف. وبدا واضحاً أن الوزير “دوسة” لم يتمكن من الرد على طالبي (الواسطة) بشكل مباشر فآثر الرد عليهم عبر الصحافة ووسائل الإعلام تفادياً للحرج الذي يخشاه الكثير من السودانيين ويخلطون فيه بين العام والخاص.
{ نهاية تمكين
تصريحات وزير العدل عند ربطها مع غيرها من تصريحات المسؤولين، نجدها تسير في اتجاه إنهاء وتنظيف مؤسسات الاختيار والتوظيف للخدمة المدنية أو الخدمة العامة، ولعل أشهرها التصريحات التي أدلى بها رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” في السادس من فبراير للعام 2012م، والتي أكد فيها نهاية عهد التمكين للاختيار للوظائف، وأضاف “البشير” بالقول في ذلك الوقت: (التمكين سيصبح بعد الآن لكل شرائح الشعب السوداني دون محسوبية).
وبمتابعة التصريحات التي تصدر عن الرئيس “البشير” أو المسؤولين الآخرين في الحكومة، نجد أن أكثرها عندما يرتبط بمناسبات محددة يتطرق لقضايا الفساد التي تثيرها أحزاب المعارضة وتعمل على استغلالها لكسب نقاط إضافية في اللعبة التي تتبارى فيها مع الحكومة، إذ نجد أن تصريحات المسؤولين في بعض الأحيان تحمل اعترافات مبطنة بوجود خلل وتوجه المستويات الدنيا بمعالجته، ولكن يبدو أن هناك حلقة مفقودة في تلك المعادلة تحتاج مراجعة لتفعيل آليات الرقابة المتابعة حسبما يقول المراقبون.
وفي اتجاه آخر، وسائل الردع القانوني والمحاكمات في المخالفات التي يثبت وقوعها وتوفير المعلومات المتعلقة بها أيضاً يشكل واحدة من وسائل محاربة تلك الظواهر والممارسات الضارة.
 وبالعودة لحديث الرئيس “البشير” الذي قاله خلال مخاطبته المصلين بمسجد (مجمع النور الإسلامي) عقب صلاة الجمعة في الثامن عشر من فبراير للعام 2011م نجد أنه جدد دعوته في وقت زمني قصير من تصريحاته الأولى التي دعا فيها إلى ضرورة محاربة الفساد والمحسوبية وإنشاء مفوضية لمحاربة الفساد، ما دفع بأجهزة الحكومة للأخذ بتلك التوجيهات وتكوين مفوضية محاربة الفساد أو ما تعارف على تسميتها بمفوضية (أبو قناية). والرئيس “البشير” قال خلال تلك الكلمة إن محاربة الفساد والمحسوبية مسؤولية مشتركة ما بين المجتمع والدولة، ودعا إلى مراعاة المصلحة العامة وضرورة تغليب المصالح الوطنية على الشخصية، لضمان المحافظة على المال العام، ونوه الرئيس “البشير” أيضاً خلال تلك الكلمة التي ألقاها بمسجد (مجمع النور) إلى خطورة وجود المستشارين الذين يزينون التقارير للمسؤولين، ويؤكدون أن (كل شيء على ما يرام).
{ عدالة وثقة
أثارت الصحافة والإعلام العديد من القضايا التي تتعلق بوجود مخالفات في التوظيف أو خلل في الأداء المالي، نتيجة التقارير التي يقدمها المراجع العام للدولة ويقرأها في كل عام أمام البرلمان، أو التي تسربت إلى الصحف من لجان الاختيار للخدمة العامة، أو شكاوى ومظالم المتقدمين للوظائف أنفسهم، وتكاد لا تخلو وظيفة أو وظائف تم الإعلان عنها بشكل معلن من وجود شكاوى واحتجاجات تفيد بوقوع مخالفات ومحسوبية في التعيين لتلك الوظيفة أو الوظائف، ومن بعد ذلك يتداول الناس سواء في الخرطوم أو الولايات وعلى نطاق واسع قصة تلك الوظيفة، وكل يذكر ما عنده من حوادث مشابهة، ولعل الرابط في تلك القصص النقل بالسند عن المتقدمين للوظائف أنفسهم أو حتى من أقاربهم.
ولعل كثرة الحديث عن تلك الأحداث هي ما دفع والي الخرطوم د. “عبد الرحمن أحمد الخضر” إلى تشكيل لجنة للتحقيق حول شكاوى واتهامات نشرتها الصحافة حول وجود خلل ومحسوبية في التعيين في عدد من الوظائف التي أعلنتها حكومته في فترة ماضية. وتقول التقارير أيضاً إن العديد من الحالات المشابهة تم رصدها والتحقيق حولها في عدد من الولايات.
ويبدو أن نائب رئيس الجمهورية (حينها) “علي عثمان محمد طه” وصلته الشكاوى التي أثارها البعض حول وجود مخالفات أو مظالم في طريقة التوظيف، ما دفعه لإصدار شهادة البراءة لحكومة “الخضر” من تلك الاتهامات في ذلك الوقت، حيث ذكر “طه” في الثامن والعشرين من يناير للعام 2011م أن الإجراءات التي قامت بها ولاية الخرطوم لاختيار (5) آلاف موظف للعمل بالخدمة المدنية، حققت العدالة وترجمت الثقة التي وضعتها الولاية في لجنة الاختيار إلى معانٍ ارتضاها الناس جميعاً، وأكدت تحمل الدولة للأمانة التي وضعها فيها المواطن في مرحلة الانتخابات. ودعا “طه” لدى مخاطبته احتفالات اللجنة العليا بالعيد الـ(55) لاستقلال البلاد واستقبال شاغلي وظائف وحدات ولاية الخرطوم الجدد بأرض المعارض في ذلك الوقت، دعا الموظفين الجدد إلى إتباع سياسة الباب المفتوح، والتعامل برفق، واحترام المواطن الذي لا يلم بالقوانين واللوائح، وطالبهم بالعمل الميداني وزيارة الأرياف وعدم الجلوس في المكاتب. ولعل الإشارات المهمة في ذلك الخطاب هي التحذير الذي صدر عن نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت للموظفين من الانحراف أو المحسوبية أو الفساد أو أي كسب غير مشروع.
والي الخرطوم د. “عبد الرحمن أحمد الخضر” قال في ذات المناسبة كلمات أرسل من خلالها رسائل للذين تحدثوا عن إبعادهم من تلك الوظائف بسبب المحسوبية، حيث قال “الخضر”: (إننا لم نجامل أحداً.. وأشهد الله لا أنا ولا أحد من حكومتي شفع لأحد عند التقدم للوظيفة، ورغم البطء الشديد الذي لازم عمل لجنة الاختيار، لكنه كان مقصوداً لتحقيق أسس العدالة)، وقال “الخضر” إن تحديد نوع وعدد الوظائف للولاية خضع لدراسة محكمة غرضها الأساسي بعث الهمة والنشاط في الخدمة المدنية بالولاية وإكمال الهيكل الإداري والوظيفي.
{ إشارات ورسائل
“طه” عاد في الثلاثين من مارس للعام 2011م للتأكيد على المعاني التي ذكرها في خطاباته السابقة وإرسال إشارات للسياسات التي تتوجه الحكومة لتنفيذها في ذلك الزمان، حيث أكد أن الدولة ستشن حرباً على المحسوبية والفساد في جميع نواحي الخدمة العامة المدنية، وأضاف لدى مخاطبته الاحتفال الذي نظمته وزارة تنمية الموارد البشرية ومجلس الوزراء لانطلاقة الدورة الأولى لزمالة الإدارة العليا بأكاديمية الشرطة العليا، بأن الدولة عازمة على المضي قدماً في تطوير الخدمة العامة وترقية أدائها تحقيقاً للأهداف الوطنية العليا، وذلك بتخريج وتأهيل القيادات العليا بالمؤسسات لقيادة الخدمة المدنية بوعي ومسؤولية وفكر مستنير، مؤكداً أن الدولة مقبلة في المرحلة القادمة على نقاش دستوري واسع مع القوى السياسية ومكونات المجتمع ليواكب المرحلة القادمة، مطالباً بأن ألا تكون الخدمة العامة وسيلة للاستعلاء على الآخرين، وعلى جميع أفرادها أن يقوموا بخدمة أهاليهم والمحتاجين من المناطق النائية والريفية، وأن تعمل الخدمة المدنية على حل قضايا المواطنين، وطالب “طه” خلال ذلك اللقاء بضرورة التخلص من أدواء المحسوبية والمجاملة في التعيين والترقي في كل جوانب الخدمة المدنية.
وفي اتجاه آخر، شكت وزيرة تنمية الموارد البشرية والعمل “إشراقة سيد محمود” خلال حوار أجرته معها (المجهر)، شكت من وجود الكثير من الاختلالات في هياكل التوظيف الحكومي، وفي وضعية ديوان شؤون الخدمة، وقالت إن ذلك الخلل أوجب عليهم تشكيل لجنة لمتابعة تلك القضايا ورفع تقرير حولها لمعالجتها بشكل كامل، وبدت الوزيرة “إشراقة” متمسكة بمحاربة كل أشكال المحسوبية أو الفساد في الحصول على وظيفة عامة أو خاصة.
وتبدو الإشارات والرسائل التي وجهها وزير العدل لعدد من الجهات من خلال شكواه من الذين تقدموا له بطلبات للتوسط لهم في الوظائف التي أعلنتها وزارته لتعيين مستشارين قانونيين، ربما تفتح باباً واسعاً حال استمر المسؤولون في الكشف عن تلك الممارسات والإعلان عنها في الهواء الطلق، ولكن تظل الشكاوى موجودة حول ما يسميه البعض بـ(المطابخ) التي يقول الكثيرون إنها تحتاج إلى مراجعات ووضع آليات حاسمة لمراقبتها لإحقاق الحق والعدل في التوظيف الذي لا يعني فقط إنهاء معاناة إنسان وحذفه من كشوفات البطالة، وإنما رفد مؤسسات القطاع العام والخاص بالكادر المؤهل الذي يعين ويساعد في تطوير الدولة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية