تعديلات الخارجية .. سياسيون في ملعب التكنوقراط
عندما تسلمت ثورة الإنقاذ الحكم كان أول ما اهتم به أهل السلطة آنذاك وزارة الخارجية باعتبارها واحدة من أدوات التغيير الذي كان ينشده أصحاب الشأن؛ ولهذا السبب دفع التنظيم آنذاك بمجموعة من شبابه لشغل إدارات مهمة في هذه الوزارة لتحقيق هذا الدور، واستمرت هذه السياسة حيث كانت وظائفها حكراً على أهل الولاء والانتماء، ورغم أن منصب وزير الوزارة بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل كان من نصيب دولة الجنوب وتقلده وزاء جنوبيون أمثال “لام أكول” و”دينق ألور”، إلا أن المؤتمر الوطني كان ممسكاً بالملفات المهمة المتعلقة بالسياسات الخارجية وخط الحكومة حيث كان “علي كرتي” يشغل منصب وزير دولة بالخارجية، حينما كان وزيرها “دينق ألور”، وكان يشكي الأخير من سياسة التهميش المطبقة في مؤسسته وعدم وضع يده على الملفات المهمة، وهذا ما توصل إليه كذلك وزير الدولة الأسبق بالخارجية “منصور العجب” الذي جاء للسلطة وفقاً لمفهوم المحاصصة كممثل للحزب الاتحادي الديمقراطي وتقدم باستقالة لهذا السبب.
رغم أن هذه السياسة أدت إلى توتير العلاقة بين السودان وكثير من الدول، إلا أن السلطة التنفيذية العليا التي تدير ملف وزارة الخارجية كانت مصرة على المضي قدماً فيها حيث تستمرت عملية المعينين سياسياً في وزارة الخارجية، واستمر بالمقابل الجدل بين المعينين سياسياً والتكنوقراط في الوزارة الذي أدي بدوره لوجود عداء مكتوم بين الطرفين، وبالضرورة التنفيذيون كانوا على علم به وربما يعترفون بهذه المسألة لكن لم يتخذوا أية خطوة لأنهم يعتقدون أن المعينين سياسياً يعبرون عن سياسات ووجهة نظر الدولة أكثر من غيرهم.
بالأمس أجرت وزارة الخارجية تعديلات سياسية على مستوى مديري الإدارات والسفراء شملت المديرين العامين ومديري الإدارات، كما تم ترشيح عدد من السفراء لبعثات السودان بالخارج، المراقبون من جانبهم اختلفوا في قراءتهم لهذه التعديلات فبعضهم قرأها في سياق التعديلات الروتينية التي تتم في هذه الوزارة بصورة دورية، ومن بين هؤلاء كان سفير الأسبق “عثمان السيد” حيث قال: لـ(المجهر) أمس: (هذه تعديلات عادية ليس لها مدلول آخر وترتيبات دورية ظلت تجريها وزارة الخارجية في إطار العمل العادي وما تم أن بعض السفراء أمثال “سراج الين حامد” و”عبد الرحمن ضرار” كانوا بالخارج وأعيدوا إلى العمل في الوزارة بالداخل، فجاء ضرار خلفاً لصلاح الجنيد الذي نقل للعمل بسفارة بالخارج، وجئ بمحمد الأمين الكارب كمدير عام للموارد البشرية والمالية خلفاً لمحمد عبد الله الذي نقل للعمل كسفير بأذربيجان، وعين “محي الدين سالم” مديراً عاماً للإدارة العامة للشؤون القنصلية بدلاً عن التعاون الدولي، و”عثمان الدرديري” كان يعمل بمكتب النائب الأول وهو بالمعاش وعين سفير بتركيا)، وبحسب السيد أن هناك فرصة أتيحت للشباب للعمل بسفارات الخارج، كما تم الاستعانة بدبلوماسيين من ذوي خبرة حتى يحدث تمازج بين الأجيال وتبادل خبرات وقال: (أعتقد أن هذه سنة حميدة).
إلا أن آخرين قرأوها في إطار خطة الوزارة ومن يشرفون على هذا التعيين من التنفيذيين الرامية إلى إعادة الخبراء والمختصين في مواقع قيادية كمديري إدارات لأنهم يفهمون مفاتيح إدارتها، وكيفية وضع سياساتها بحكم فهمهم للأبعاد الدولية والإقليمية، لذلك تمت إعادة “عبد المحمود عبد الحليم” و”سراج الدين حامد”، و”عبد المنعم عثمان البيتي” كمدير للشؤون الأوروبية خاصة أن السودان يحتاج في الفترة القادمة إلى وجود شخص قريب من المحيط الأوربي، وهذا الأمر ينطبق كذلك على السفيرين “عبد الباقي كبير حمدان” مدير الشؤون الأفريقية و”محمد يوسف حسن” مدير إدارة الاتحاد الأفريقي، على ضوء ملفات السودان الساخنة التي ما زالت تقبع في طاولة الاتحاد الأفريقي، كذلك يعتبر “عبد الرحمن ضرار” من الذين خاضوا تجارب في العمل بالخارج، حيث كان يشغل منصب مندوب السودان الأسبق بجنيف، وتم تعينه مديراً للمراسم وانطلاقاً من هذا الفهم جيئ بأحلام عبد الجليل في منصب مدير شؤون مصر، فهي من الشخصيات النسائية التي اختيرت للخارجية منذ بدايات ثورة الإنقاذ. وتطابقت هذه الرؤية مع ما أكده دكتور “خالد حسين” الذي أشار بدوره إلى أن هذه التعديلات تدل على استجابة الأجهزة المنوط بها وضع السياسات الخارجية لما ظل يطرحه وزير الخارجية “علي كرتي” حيث كانت له رؤى محددة فيما يتعلق بالتعاطي مع الشأن الخارجي والأفراد الذين يديرون هذه الملفات، وما تم يشير إلى أن هناك اعتبارات فنية لهذه الرؤى والتغيير فيه تحقيق لهذا الطموح.
وبصورة عامة يمكن القول إن أغلب الذين تم اختيارهم كانوا من الشخصيات الموالية التي عملت في هذا الشأن لفترة طويلة.
كما أن أغلب السفراء الذين تم اختيارهم لبعثات السودان بالخارج كان بعضهم يعمل في وزارة الخارجية بالداخل، لكن كان لافتاً تعيين “سناء حمد العوض” مديراً عاماً للقضايا الدولية، رغم ما رشح مؤخراً عن أنها في طريقها للخارجية، فسناء لا تربطها علاقة بالدبلوماسية إلا التخصص في القانون الدولي والعلاقات الدولية، بجانب ذلك ظلت بعيدة عن العمل التنفيذي منذ مغادرتها وزارة الثقافة والإعلام، وبالمقابل أصبحت تشاهد في بعض أدوار الحزب التنظيمية، وفي السياق بدأت سناء مؤخر كأنها زاهدة في العمل التنفيذي.
وسبق أن غادرت البلاد إلى لندن في رحلة حسبها البعض نهائية على ضوء ما كان يتردد حول أنها أصبحت أقرب للتيار الإصلاحي الغاضب على سياسات السلطة التنفيذية، إلا أنها عادت مرة أخرى لتنظيمها، لكن يبدو أن عودة طسناء” إلى واجهة العمل التنفيذي والخارجية تحديداً، كان يدعمه عدد من النافذين الذين يعتقدون أنها حققت نجاحات مقدرة عندما كانت وزير دولة بالإعلام، كذلك هناك من يعتقد أنها خبيرة في مجال العلاقات الدولية أو كما قال دكتور “خالد حسين” لـ(المجهر) حيث اعتبر أن “سناء” اختيرت للإعلام عن طريق الخطأ لأنها متخصصة في القانون الدولي والعلاقات الدولية، ولديها اهتمام كبير بالشأن الأمريكي، ووفقاً لخالد فإن “سناء” الآن في ومكانها الطبيعي وفي ذات الاتجاه.
قيل تربطها علاقات أكاديمية ونشاطات فكرية ببعض المراكز الأمريكية وسبق أن تم ترشيحها لشغل منصب بإحدى السفارات الغربية.
وكان من أبرز التعديلات التي تمت أيضاً تعين السفير “عبد المحمود عبد الحليم” مندوب السودان الأسبق في الأمم المتحدة مديراً عاماً للعلاقات الثنائية والإقليمية، ويذكر أن “عبد المحمود” بعد عودته من الأمم المتحدة تم انتدابه بوزارة تنمية الموارد البشرية وعمل بها كمدير عام للعلاقة الدولية والولائية، وقيل إنه كان مستاءً وكثيراً ما يقول (this not my minsty ) ، كما شوهد مؤخراً بميدان “كركر” وسط زحمة يحاول الحصول على وسيلة مواصلات، عودة “عبد المحمود” إلى العمل الدبلوماسي رغم وصوله سن المعاش يمكن قراءته في سياق عودة الرجل إلى موقعه تثميناً لدوره السابق إلا أن هناك ثمة اعتقادات أخرى أشارت إلى أن هناك اتجاهات داخل المؤتمر الوطني رجحت كفة العودة إلى الخبراء في العمل الدبلوماسي بسبب ضعف مسيرته مؤخراً أو كما قالوا، لكن “عثمان السيد” أكد لنا صدور قرار جمهوري بشأنه للتجديد له بعد إحالته للمعاش.
كذلك جاءت هذه التعديلات بسراج الدين حامد كمدير عام للتعاون الدولي وكما هو معروف أن “سراج” كان آخر منصب شغله هو سفير السودان بدولة هولندا، وقبل ذلك عمل كسفير للسودان بموسكو، وكان مقرر للجنة التحقيق التي شكلت عقب حادث مقتل الدكتور “جون قرنق”، ووجوده يعني اهتمام الوزارة بالملفات الدولية.
وأخيراً يبقى السؤال: هل تمت هذه التعديلات بهدف عمل نقلة في العمل الدبلوماسي على ضوء التعقيدات التي تشهدها كثير من الملفات أم أنه إجراء روتيني؟