لقاء كرتي والفجر الكاذب
رحم الله العالم المثقف د. منصور خالد الذي كان يختار عناوين مقالاته وكتبه بدقة متناهية تكشف عن مخزونه المعرفي واطلاعه الواسع. وقد كتب الفجر الكاذب وهو في ريعان الشباب وجعل من بزوغ فجر ديمقراطية غير التي جربها السودانيون و أورثتهم المهالك هو ما تتوق إليه نخب السودان وعامة شعبه.
في زماننا هذا وقد تبدلت لغة الناس وانحسرت مساحات الحوار بين فرقاء الفكرة وطغت لغة العنف والإقصاء للآخر من مستوى الفعل إلى مستوى الوجود وتشرزم حلفاء السلطة إلى شيع وجماعات ، وبدأت تصدعات التيار الإسلامي وهو في محنته الوجودية، إذا بسخائم النفوس تطل وتتكاثف الاتهامات نحو الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية الأستاذ علي أحمد كرتي المحامي.
اختار الرجل الظهور علناً وقول كلمته من خلال قناة وطنية (طيبة) وكان بمقدور الرجل الظهور عبر قنوات خارجية حتى ولو كانت قناة (الجزيرة) .. أشد القنوات الفضائية بغضاً للتيار الإسلامي في السودان، ولكن لاعتبارات قدّرها على كرتي كان ظهوره المفاجئ عبر فضائية (طيبة) ومحاوره الصحافي والإعلامي الطاهر حسن التوم القادم من تركيا بعد سنوات من المنفى القسري ، نتمنى رؤية الغائب الآخر الصادق الرزيقي رئيس اتحاد الصحفيين.
وجدت مقابلة على كرتي اهتماماً ومتابعة من قطاع واسع جداً من السودانيين متعاطفين ومراقبين ومشفقين وساخطين وناقمين ، وحصل كل منهم من خلال حديث كرتي على مبتغاه فالتيار الإسلامي العريض اطمأن لمواقف قيادة الحركة الإسلامية المكلفة من إدارة الأزمة التي تعيشها البلاد وتعيشها الحركة، وقدم على كرتي مرافعته الأولى بعد ثلاث سنوات وبضع شهور من الغياب القسري والمطاردة، وبدت على الرجل الثقة بالنفس والرهان على مدنية الدولة من خلال الانتخابات وحدها نافضاً يده من اتهامات طالته ظلماً وحيفاً بتحريك المشهد السياسي من وراء ستار أو التحالف مع العسكر بل ذهب غلاة المتطرفين من خصوم عقلانية كرتي في كل المعسكرات السياسية لاتهامه بتدبير وتحريك دبابات الجيش لانقلاب ٢٥ أكتوبر التي أطاحت فيه المجموعة العسكرية بحليفها المدني، لكن كرتي قالها بثقة إنه لايعرف عن البرهان إلاّ مايعرفه ساسة آخرون، ضابطاً عظيماً في الجيش، ولكنه -أي كرتي- قدم إقرار بأن الساحة السياسية الآن وبعد انقلاب أكتوبر أفضل من سنوات حكومة (قحت) التي كانت تصادر أملاك المواطنيين بلا سند قانوني وتعتقل السياسين، ثم تبحث عن جرائم تدينهم وتغوي النيابة وتشتري ذمم من يعرضها في السوق للإضرار بخصومها وماقصة الشاب (الحواتي) بعيدة عن المخيلة.
رهن كرتي مستقبل الإسلام السياسي والاجتماعي في البلاد بعودة حق الشعب في الاختيار والتصويت ولم يتهافت كرتي للسلطة وهو الذي غادر وزارة الخارجية وفي ذمة الوزارة مديونية ضخمة لصالح كرتي دفعها من مال أسرته ، لستر عورات الحكم وقتها، وقد عُرف عن كرتي الواقعية والمدافعة عما يؤمن به مهما تعاظمت التضحيات وربما كانت لحظة فارقة حينما وقف أمام نواب البرلمان (المجلس الوطني) وقال كلمته بعد خطبة رئيس الجمهورية الجماهيرية عن أسباب توتر علاقتنا بالدول الأفريقية، وحينها بهت حراس بوابة الكلام والركع والسجود بابواب السلطة عندما وجه كرتي نقداً لخطاب البشير.
وفي ذلك يحذو الرجل طريق شيخ الإسلام ابن تيمية الذي لم يكن عالماً من سائر الشيوخ فحسب ، ولا متصوفاً مثل الغزالي ولكنه كان مجاهداً يهدف التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي، وقد صد الرجل هجمات الصليبية والتتار، ووقف في وجه حكام الجور وعلماء السوء وتحمل أذية الطرفين، مثلما وقف كرتي ناقداً مواقف العسكر من التحول الديمقراطي الحقيقي وتحالفاتهم التكتيكية مع قحت.
الحوار المبثوث عبر (طيبة} فتح نوافذ للحديث الجهير حول مستقبل التيار الإسلامي و أزاح غشاوة عن أبصار بعض الناقمين على الرجل.