هل يتجاوز المؤتمر الوطني حالة الانقسام الماثلة في الساحة السياسية؟
{ عاد “علي عثمان محمد طه” السياسي للمسرح بعد طول غياب كما عاد الحبيب المنتظر في دفاتر الأشعار وتوقيعات العاشقين، وأما كيف عاد ولماذا عاد؟ تلك أسئلة مستوحاة من أدب “الطيب صالح” على لسان “مصطفى السعيد” فإن البوصلة الهادية لمسيرة القوم (الإنقاذ) ترسو سفينتها دوماً على مقربة من شواطئ رجل كلما غاب شكل حضوره مناسبة! وحينما يصمت لا يتكلم الآخرون، ولكن صمته يثير من الأسئلة ما يربك الساحة ويغشاها بكثير مما يقال همساً وجهراً، سراً وعلانية.. إفصاحاً وإيماءً كأن “علي عثمان” في غيابه تصبح الساحة السياسية عدواً لا يطمئن لها سائر، وقد تكاثرت على جسد الوطن الجروح وبات مهدداً في ما تبقى من جغرافيته التي انقسمت وتناقصت مثلما يتناقص يومياً سكان ثلاثة أقاليم كردفان، النيل الأزرق ودارفور، ويبتهج لهذا التناقص والموت أقوام يرفعون لاءات الحرب، ويستثمرون في جماجم الضحايا.. ويبذرون من حبوب الكراهية ما يكفي لتمزيق قارة لا وطناً كالسودان!
عاد “علي عثمان محمد طه” للساحة السياسية كقائد سياسي للحركة الإسلامية، واقعياً في أطروحته التي تجاوزت قيود الموقع التنفيذي وخصوصية المكان مجلس الوزراء، لينثر الرجل حزمة مواقف ظلت محل اشتجار وجدل ليس بين القوى السياسية المعارضة والمؤتلفة في الحكم فحسب، بل وسط النخبة الحاكمة وعصبها ولحمها من الإسلاميين الذين تبدت حيرتهم شاخصة ما بين الموت وقوفاً قرب صنم (الثوابت) ولاءات بالية رفعها “عبد الناصر” في قرن ماضٍ اندثر ولا يزال بعض منا يتشبث بها مثل تشبث الشيخ “قريب” في خلوته ووحشته ولحظة أنسه وهو يردد (وأكفنا شر الملاهي وأهدنا سمح الطريق)، يرفعون من اللاءات ما يضع السكين على أعناقهم لا حوار مع المعارضة ولا تفاوض مع حاملي السلاح ولا حكومة انتقالية ولا مشاركة في صناعة الدستور لمن أبا ورفض دعوات العلاقات العامة ولا تسوية مع دولة الجنوب إلا بشروطنا!.
وما بين مواقف أكثر واقعية تقود الحوار مع دولة الجنوب وتمد الوصل مع الآخر و(تكسر) حوائط الصد التي تصنعها الأقوال الفاحشة في حق الآخر.. ويغذيها (سلوك) الإقصاء من مستوى الفعل حتى الوجود.. ولكن كثيراً من أهل السودان (لا يزالون) يأملون و(يراهنون) على وعي قيادات في الحركة الإسلامية مهما غابت فإنها ستأتي ولو متأخرة، وغياب “علي عثمان” عن الساحة منذ ما يربو على العام ونصف.. ضاعف من تقوُّلات المنتظرين تصدُّع الحكومة وحزبها، وأثار حزن وإشفاق صفها المخلص، ولكن الحضور بعد الغياب خلف من ورائه أيضاً أسئلة وعلامات تعجب ودهشة حد الربكة.. أول الأسئلة هو ما طرحه “علي عثمان” وصْفة لمصفوفة قادمة لداء الداخل الوطني؟
(1)
أولى القضايا الجديرة بالتأمل والوقوف عندها وتناول ظاهرها والاجتهاد في سبر غور باطنها هي الإقبال على توحيد الصف الوطني، ومد الأستاذ “علي عثمان” حبال الوصل والود مع ألدِّ خصوم المؤتمر الوطني وأكثرهم بغضاً في معسكره (المؤتمر الشعبي)، وموقف الوطني من الشعبي مبعضاً ما بين قيادات يُرتجى منها أمل ومرحب بها في الحوار وحتى المشاركة أو العودة، وآخرين غير مرحب حتى برؤيتهم في أجهزة الإعلام ومن بغض السياسة ما قتل، ويمثل د. “علي الحاج” نموذجاً لقيادات الشعبي التي لا يُرتجى منها عند الوطني “خيراً.. ولقاء “علي الحاج وعلي عثمان” في “برلين” الشهر الجاري أعاد للأذهان لقاء “الترابي والصادق” في “جنيف” حينما لاح “للترابي” طيف نهاية شهر العسل بينه وتلاميذه، فاستجار بصهره ونده التقليدي “الصادق” ولكن ذكاء وواقعية “مصطفى عثمان” و”غازي صلاح الدين” قطفت ثمار التقارب مع حزب الأمة، فخرج “الترابي” من الباب الكبير ودخل نصف حزب “الصادق” في عباءة المؤتمر الوطني. وتبددت الظنون وتسربت الشكوك بالحقيقة أن “علي عثمان” حينما التقى “علي الحاج” وبمبادرة من الأخير.. وتلك فضيلة تحسب “للحاج” ما كان “علي عثمان” تدفعه نوازع نفس أمارة بشيء آخر غير جمع وحدة الصف والبحث عن مخرج صدق قبل مكسب ذات.. لم يقلل “علي عثمان” من قيمة لقائه بـ”علي الحاج” كما كان متوقعاً ولم يضعه في جدولة اهتماماته، حيث تفتقت عبقرية الدكتور “محمد مختار” لكسر تقاليد المؤتمرات الصحفية الباردة حينما فتح باب الأسئلة للصحافيين بدون مقدمات تفسد حلاوة المشهد.. وقطع النائب الأول مسافة أبعد من الشعبي إلى القول بأن القوى العلمانية التي تسعى لفصل الدين عن الدولة (سنلتقي) معها في مائدة حوار وطني لقضايا البلاد، وتلك عافية جديدة افتقدتها البلاد لسنوات، حيث لاحت فرص تاريخية من قبل لتوحيد البلاد، ولكن أهدرتها القوى السياسية وهي تتربص ببعضها بعضاً، وكان حرياً بها يوم أن ذهب الجنوب لسبيله دولة مستقلة عن الشمال أن يرتقي القادة لطموحات شعب يبحث عن حقوقه المدنية ولا يجدها.. ويتوق لدستور يحترم من الجميع، وقوانين يستوي عندها الفقير والغني، القابض على مفاصل السلطة والجالس تحت شجرة يسأل الله جنيهاً أو ديناراً لسد رمق بطن أنهكها الجوع.. كان الفرقاء السودانيون يوم ذهاب الجنوب يبحثون عن الحكمة التي جمعت الرئيس “كسنجر” مع الشيوعي “ماتسي تنغ” الذي أبلغ فيه الرئيس “ماو” برغبة أمريكا في أن تكون لها علاقة مع الصين دون قيد أو شرط حسب رواية “كسنجر”، رحب ما بما قاله “كسنجر” ثم أضاف لنا فقط شرطاً واحداً (لديكم منشق صيني أويتموه في سفارتكم خذوه إن شئتم ولكن بشرط واحد هو اعتذاره للصين عن موقفه)، هذا المثال في العلاقة بين الصين والولايات المتحدة ليت السودانيين (اعتبروا) به وهم يقرأون القرآن عشية وضحى ولا يتأملون قول الحق: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، ووردت في آيات أخرى يعقلون وينظرون ويتدبرون.. لكن عبقرية جرحى الوطن المأزوم تفتقت لفكرة بائسة دعا إليها بعض السماسرة عن تحية العلم يوم آن انقسام الوطن، ولم (يتدبر) القادة من المعارضة والحكومة هل الانقسام الذي (وقع) هو الأخير، وكيف لنا تمتين عرى ووثاق ما تبقى من السودان؟.
(2)
بعد تردد وإقبال وإدبار ورفض ولاءات ومزايدات حول التفاوض لحل أزمات منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وضع “علي عثمان محمد طه” نقاطاً في سطور الأزمة وحسم الجدل لصالح تيار السلام والتفاوض وفق مرجعية اتفاق نيفاشا وبرتوكولات المنطقتين، وفي غياب الرؤيا السياسية سادت الساحة في الشهور الأخيرة (حالة) من الجنون.. بدا فيها دعاة الحرب أبطالاً من الخرطوم يحاربون بأفواههم وأقلامهم.. ينخرون في جسد مثقل بالجراح، بحقنه بجراثيم عنصرية جديدة لخدمة جهة ما.. والدعوة للسلام جعلها دعاة الحرب (استسلاماً)، والجهر بالرغبة في التفاوض ووقف موجات النزوح واللجوء وصراخ الأطفال في هجعة الليل والنظر بعين الرحمة والإنسانية للضحايا (حسبوه) انبطاحاً، ولا يقدم دعاة الحرب بديلاً يعتد به.. ولكنهم يهيمون في أودية (الشتائم) بفاحش القول وبذيئ العبارات.. وأغلب هؤلاء (يتمترسون) خلف أوعية سلطانية يصدرون الفتاوى حتى في سفر الرئيس لبلاد النفط والغاز “الدوحة” وفتوى منع الرئيس من السفر إلى خارج السودان حتى لا يرمي بيده للتهلكة، وهؤلاء وأمثالهم من يصدرون أحكاماً بحرمة التفاوض مع أبناء الوطن الواحد حتى لا تصمت أصوات البنادق في “طروجي” و”الكرمك”.. لكن “علي عثمان” ذهب بعيداً في مقاصده (الكلامية) حينما قال: (سنفاوضهم ولن نستثنى أحداً) بما في ذلك الذين وقعوا على ميثاق (الفجر الكاذب) في “كمبالا” والرغبة في الحوار لا هي ترفٌ فكريٌ ولا تكتيكات سياسية لكسب لعبة صفرية.. ولكنها مسئولية القادة الحقيقيين حينما ينظرون للحرب كأداة لتشظي الوطن.. وفي التاريخ الإنساني وجغرافية العالم أي حرب تطاولت إما انتهت بقيام دولة أو سقوط مركز السلطة بطريقة مفزعة تثير.. وحينما تطاولت حرب الأرجنتين نهضت وانقسمت دولة البرازيل.. وتمخض عن الحرب العالمية الألمانيون، وعن الاستعمار ميلاد روسيا الجنوبية (زمبابوي) وروسيا الشمالية (زامبيا) وعن الحرب الأثيوبية – الأثيوبية استقلال إريتريا وفي أنفسكم أفلا تنظرون، فقد خرجت دولة الجنوب من عباءة السودان بسبب الحرب، وليس مستحيلاً أن تخرج دارفور أو جبال النوبة عن السودان إذا تطاولت الحرب وانسدت آفاق الحوار.. ويتساءل البعض في غباء و(عمى) بصيرة هل الذين يحملون السلاح يمثلون تلك المناطق؟ دون سؤال أنفسهم لماذا حمل هؤلاء السلاح؟ وقد كسبت الحركة الشعبية في الانتخابات الأخيرة من الأصوات ما جعلها تمشي مع المؤتمر الوطني كتفاً بكتف ورجلاً برجل، فلماذا (استمالت) الحركة الشعبية مواطني تلك المناطق؟
الإجابة عندي إن الحركة الشعبية خلال الحملات الانتخابية خاطبت قضايا الناس المحلية.. وأثارت عواطفهم وأحلامهم وكانت تحدث الناس عن التعليم والصحة والطرق والجسور، بينما المؤتمر الوطني خطابه يميل لترديد شعارات مركزية واسترضاء للقيادة في الخرطوم!
والسؤال لماذا جعل “عبد الواحد” في دارفور معسكرات النازحين هي حقل استثماره؟ حتى استعصى على ولاة دارفور باستثناء د. “عبد الحميد موسى كاشا” دخول تلك المعسكرات.
الإجابة أن “عبد الواحد” خاطب عواطف النازحين بإدعاء إنه لن يوقع على اتفاقية سلام إلا بعد تعويض الأهالي نقداً فرداً بعد الآخر وهو على يقين باستحالة تحقيق هذا المطلب، ولكنه يستثمر في عاطفة النازحين.. وبدا “علي عثمان” لأول مرة أكثر قناعة بالحل الشامل ونبذاً لسلام التجزئة الذي مزق الحركات المسلحة ولم يحقق الطمأنينة للمواطنين.. ولكن قناعة “علي عثمان” بالسلام الشامل شيء، وواقع المنابر التي تنهض بالتسويات شيء آخر، فالقرار (2046) أهم سماته تجزئة الجبهة الثورية لمكوناتها الأولية بحل قضية المنطقتين وفق مرجعية اتفاق (“نافع”- “عقار”) والحركات الدارفورية وفق مرجعية الدوحة! والإقبال على التفاوض مع قطاع الشمال يمثل عودة لوعي القيادة بمخاطر الحروب الداخلية التي لا مكان فيها لمنتصر أو مهزوم، و”عقار” و”الحلو” و”مناوي” و”خليل” هم مواطنون سودانيون وجودهم في المنافي حاملين السلاح في وجه الدول لا يمثل نجاحاً للمؤتمر الوطني ولا للسلطة القائمة بقدر ما هو دليل على فشل الدولة وعجزها عن قضاياها الداخلية وثغرة يتسلل عبرها المجتمع الدولي لفرض ضغوطه على البلاد.
(3)
قضية خلافة “البشير” التي أثارتها (المجهر) يوم ميلادها قبل عام من الآن.. أضحت قضية رأي وشغل للساحة السياسية.. ووجود “البشير” في السلطة لدورة قادمة أو تجديد دماء الدولة والحزب لا تمثل مجرد شأن داخلي لحزب المؤتمر، ولكن لها انعكاساتها على الساحة السياسية الداخلية وعلاقات البلاد الخارجية، ولم يتجاهل “علي عثمان” القضية كما كان متوقعاً لكنه أعادها لمؤسسات الحزب التي تحترم خيار “البشير” الشخصي، ولكنها تملك قرار رفض ذلك الخيار بإعادة انتخابه لدورة جديدة، وقد سكت القرآن لحكمة يعلمها الله عن موضوع السلطة مما جعله من المباحات رغم أن فكرة الحاكمية لله قد تم استغلالها بسوء وكرست الدكتاتوريات الثيوقراطية شعارات الحاكمية لله (لتفجر) في الخصومة وحمل الناس على طاعة الطواغيت على الإطلاق، وجعلت من الملوك والرؤساء آلهة أو ظلاً لله في الأرض، وعندما ولي “أبو بكر الصديق” رضي الله عنه أمر المؤمنين هرع إليه “عمر بن الخطاب” ليبايعه ويقول له: (لقد ارتضاك النبي لديننا أفلا أرضاك لدنيانا) ولو كان الحكم قد وردت فيه نصوص حاكمة ونهائية لما تخلف عن بيعة “الصديق” “علي بن أبي طالب” و”طلحة بن عبيد الله” و”الزبير بن العوام” وتمترسوا في دار سيدنا “علي” كرم الله وجهه حتى غضب سيدنا “عمر” كما جاء في كتاب “الطبري” وقوله لأحرقن عليكم البيت أو لتخرجن إلى البيعة). ووضع “علي عثمان” على عاتق المؤسسات اختيار خليفة “البشير” أو حمله على التجديد لدورة قادمة، وبدا “علي عثمان” زاهداً في نفسه لخلافة “البشير” أو متهافتاً لها.. حتى أنه طرح أن تذهب ثورة التجديد إن جازت التسمية لكل النخبة التي هي اليوم حول “البشير” وفي مقدمتهم “علي عثمان” نفسه.. وتلك مثالية في السياسة بلا شح نفس ولا طمع، وربما توافق ذلك مع رغبات كثيرة في الساحة (المؤتمرية) وقد هرع لترسيخ هذه المعاني في الذاكرة السياسية الدكتور “قطبي المهدي” حينما قال إن خلافة “البشير” يجب أن تتخطى القيادة الحالية.. طبعاً بما في ذلك “قطبي” الذي لا ينظر إلا لشيخه “عثمان” أين يقف ليقف بعيداً عنه أو مواجهته.. وحينما تضعف الساحة السياسية ويموت التنافس بين الأحزاب ويسود في الساحة حزب واحد تنشب في أطرافه الصراعات ويتعرض للانقسامات، فقد خسر الإسلاميون حتى شيخهم “الترابي” بسبب الانقسام الداخلي حينما غاب المنافس وتساقطت القيادات كأوراق الخريف بعيداً عن المنشأ والدار، وحينما يُلوح “البشير” برغبته في التنحي عن السلطة بنهاية دورته.. فإن للعقل حكماً على الأشياء هل أربعة وعشرون عاماً من الحكم تكفي أم مزيداً من السنوات ولكن قضايا الوطن التي تأخذ بتلابيب بعضها أحرى بالبحث عن مخارج لها، قبل أن (ينغمس) الجميع في خلافة “البشير” رغم أهميتها!